موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

ما هي صفات الشخص الناضج؟

إنها صفات غريبة جداً... أولاً، هذا الشخص صاحب الشخصية لم يعد شخصاً ولا هوية، لم يعد نفْساً أو كيان، بل أصبح وجوداً وحضرةً تملأ المكان...

 

ثانياً تراه أكثر ما يشبه الأطفال في براءته وبساطته، لذلك قلتُ أن صفات الشخص الناضج غريبة جداً... لأن كلمة النضج تجعلنا نعتقد أنه قد اختبر كثيراً من الأشياء في الحياة، وأنه حتماً كبيرٌ في السن.

 

جسدياً قد يكون كبيراً في عمره، ولكنّه روحياً كطفلٍ بريء. نضجه ليس مجرد خبرة مكتسبة خلال حياته، لأنه عندها لن يكون طفلاً، عندها لن يكون وجوداً، بل سيصبح شخصاً خبيراً متعلّماً لكنه ليس بناضج.

 

لا علاقة للنضج بتجاربك في الحياة. بل يتعلق النضج برحلتك الداخلية وتجاربك الداخلية.

 

كلما ذهبَ المرء بعيداً داخل نفسه كلما زاد نضجه.

 

وعندما يصل إلى مركز وجوده بالتحديد، سيصبح ناضجاً تماماً. ولكن في تلك اللحظة، سيختفي الشخص، وسيبقى وجوده!

 

تختفي النفْس    ويبقى الصمت والفناء

تختفي المعرفة     وتبقى البراءة والنقاء

 

بالنسبة لي، النضج هو مرادف لكلمة تحقيق الذات: حيث تصل إلى كامل قوتك الكامنة التي تصبح فعالة تماماً. كالبذرة التي قد مضى عليها وقت طويل، وها هي الآن قد أزهرت.

 

للنضج عطرٌ شذيّ... إنه يعطي جمالاً أخاذاً للفرد، يعطي أعظم ذكاء نافذ ممكن على وجه الأرض.

 

يجعل المرء خالياً من كل شيء إلا الحُب. فيصبح عمله حباً، وعدم عمله حب أيضاً! حياته حب، وموته حب أيضاً... كزهرة من الحب لا غير

 

لدى الغرب تعاريف طفوليّة جداً للنّضج، حيث يعني الغربيّون بالنضج أنك كبرتَ ولم تعد بريئاً على الإطلاق، ولأنك قد نضجتَ من خلال تجارب الحياة، فلا يمكن خداعك بسهولة، ولا يمكن استغلالك أبداً، يعني أنك قد امتلكتَ شيئاً بداخلك مثل الحجر، يعطيك الحماية والأمان من كل البشر......

 

هذا التعريف عاديٌ جداً، ودنيوي جداً!!

 

نعم ستجد في الدنيا أناساً ناضجين من هذا النوع. ولكن الطريقة التي أرى بها النضج مختلفة تماماً، بل وتعاكس هذا التعريف كلياً: النضج لن يجعلك صخرةً، بل سيجعلك غير حصين على الإطلاق، ناعماً وبسيطاً جداًً ومرهف الإحساس.

 

تقول القصة... إن لصّاً قد دخل إلى كوخ الشيخ. وكانت ليلة مكتملة القمر، وقد دخل اللص بالخطأ إلى هناك، وإلا، فماذا تستطيع أن تجد للسرقة في بيت المعلّم الفقير!؟

 

كان اللص يبحث، وقد فوجئ عندما لم يجد أي شيء. وفجأة رأى رجلاً يتجه نحوه وبيده شمعة.

 

قال له الرجل: "عن ماذا تبحث في هذه الظلمة؟ ِلماذا لم توقظني؟ لقد كنتُ نائماً بقرب الباب، ولو أنك أيقظتني لكنتُ أريتُك البيت بكامله"

وقد بدا هذا الرجل بسيطاً جداً وبريئاً، وكأنه لا يستطيع أن يتصور أن يكون أي شخص لصاً!

 

أمام بساطته وبراءته قال اللص: "ربما لم تعرف أنني لص"

 

رد عليه المعلّم: "هذا غير مهم، على المرء أن يكون شيئاً ما في الحياة. ولكن ما أعنيه، هو أنني أسكن هذا البيت منذ ثلاثين سنة، ولم أجد فيه أي شيء، لهذا دعنا نبحث سويةً، وإذا وجدنا شيئاً نتشارك به!.. حتى الآن لم أجد شيئاً في هذا الكوخ، وهو فارغ تماماً"

 

توجّس منه اللص، فالرجل يبدو غريباً جداً، إما أنه مجنون أو... مَن يعلم من أي نوع من الرجال هو؟

أراد اللص أن يهرب لأنه قد ترك خارج المنزل أشياءً قد سرقها من بيوت أخرى... لكن المعلّم كان لديه غطاء واحد -كان هذا كل ما لديه- وكانت تلك ليلة باردة، لذا قال للص:

"لا ترحل بهذه الطريقة أرجوك، لا تُهنّي بفعلك هذا، وإلا فلن أغفر لنفسي مطلقاً، لأن رجلاً فقيراً أتى إلى منزلي في منتصف الليل وعاد خاوي اليدين.

خذ هذا الغطاء فسينفعك، الجو بارد في الخارج. أنا داخل  المنزل والجو دافئ هنا فلا تقلق عليّ "

 

ووضع عليه الغطاء، وكاد اللص يفقد عقله! وقال:

"ماذا تفعل؟ أنا لص!!!"

 

قال المعلّم:

"هذا لا يهم، في هذا العالم كل مرء عليه أن يكون شيئاً ما، وعليه أن يعمل في عمل ما... قد تقوم بالسرقة، لكن هذا ليس مهماً، المهنة مهنة.... فقط أتقن عملك، وأنا أباركك. ولكن انتبه، لا تدعهم يقبضون عليك، وإلا ستقع في المشاكل"

 

قال اللص:" إنك غريب جداً، لا لباس لديك، ولا تملك شيئاً!"

 

قال المعلّم: "لا تقلق، أنا قادم معك! فالغطاء كان الشيء الوحيد الذي يبقيني في هذا البيت، وبدونه لا شيء في هذا البيت -وقد أعطيتك الغطاء الآن.

سآتي معك، وسنعيش سوية. يبدو أن لديك أشياء كثيرة، وهذه شراكة جيدة. لقد أعطيتك كل ما لدي، تستطيع أن تعطيني قليلاً مما عندك، وهكذا سيكون كل شيء على ما يرام."

 

لم يصدق اللص ما يحصل! لقد أراد فقط أن يهرب من هذا المكان وهذا الرجل بأية طريقة! فقال:

"لا أستطيع أن آخذك معي. لدي زوجة وأولاد وجيران، ماذا سيقولون عني؟ أحضرتَ لنا رجلاً عارياً؟! "

 

"هذا صحيح، لن أضعك في موقف محرج، تستطيع أن تذهب، وأنا سأبقى في المنزل"

 

همّ اللص بالرحيل فصاح فيه المعلّم: " هيه أنت، عُد إلى هنا "

 

لم يسمع اللص من قبل صوتاً بهذه القوة وكان يدوي دويّاً... فعاد بسرعة... قال له المعلّم:

"تعلّم القليل من اللطافة! أعطيتك الغطاء لكنك حتى لم تشكرني.

لذا أولاً اشكرني، فالغطاء سيساعدك في طريقك الطويلة.

ثانياً، أنت الذي فتحت هذا الباب، وقد خرجتَ منه الآن دون أن تغلقه!

ألم تشعر بالبرد في الخارج، ألم ترى أني أعطيتك غطائي وبقيتُ عارياً؟

نعم، أن تكون لصاً أمرٌ مقبول على أن تكون مؤدباً... أنا رجل صعب، لا أتسامح مع هكذا تصرف، قل لي شكراً! "

 

أحسّ اللص أن عليه أن يشكره فقال: "شكراً يا سيدي" وأغلق الباب ثم هرب.

 

لم يستطع اللص تصديق ما حصل! بقي مستيقظاً طوال الليل. صوت المعلّم لا يزال في أذنه، لم يسمع صوتاً قوياً كهذا...

كم للرجل من قوة عظيمة مع أنه لا يملك شيئاً !

 

سألَ عنه في اليوم التالي وعرف أن الرجل معلّم عظيم. وعرف أنه قام بخطأ كبير... لقد كان أمراً بمنتهى البشاعة أن يذهب إلى رجل فقير كهذا، لا يملك شيئاً.. ولكنه كان معلّماً عظيماً.

 

قال اللص لنفسه: "ما أستطيع فهمه هو أن هذا نوع غريب جداً من الرجال. في حياتي كلها تعرضتُ للكثير من الناس، أغنياء وفقراء لكن ليس مثله... مجرد تذكّره يُسبب رعشة قوية في جسدي.

عندما ناداني لم أستطع الهروب، لقد كنت حراً تماماً، كنت أستطيع أخذ أغراضي والهرب، لكنني لم أستطع. لقد كان هنالك شيء ما في صوته أعادني إليه. "

 

بعد بضعة شهور، قُبض على اللص، وفي المحكمة بعد توجيه كثير من الاتهامات، سأله القاضي:

"هل يعرفك أحد من الجوار؟"

 

" نعم، هناك شخص واحد يعرفني" وذكر اسم المعلّم.

 

قال القاضي: " هذا يكفي: اطلبوا المعلّم، إن شهادته بشهادة عشرة آلاف شخص. ما يقوله عنك كافٍ للحكم عليك"

 

سأل القاضي المعلّم: "هل تعرف هذا الشخص؟"

 

أجاب المعلم: "أعرفه؟؟ نحن شركاء. إنه صديقي، حتى أنه زارني يوماً في منتصف الليل، وقد كان الجو بارداً، فأهديته غطائي. إنه يرتديه الآن، ألا ترى؟ هذا الغطاء مشهور على امتداد البلاد، كل الناس تعرف أنه لي."

 

قال القاضي: " صديقك؟ ويسرق؟ "

 

قال المعلّم: " لا أبداً! لا يمكن أن يسرق، إنه رجل نبيلٌ فعلاً، حتى أنني عندما أعطيته غطائي قال: "شكراً لك يا سيدي" وعندما خرج من منزلي أغلق الأبواب بهدوء. إنه مهذب جداً، صديقي العزيز. "

 

قال القاضي: " إذا كنتَ أنت من تقول هذه الشهادة، إذاً فكل الشهادات التي قيلت فيه قبلاً باطلة، وهو بريء وحر الآن."

 

خرج المعلّم من القاعة، وتبعه اللص.

 

قال المعلّم: " ماذا تفعل؟ لماذا تأتي معي؟ "

 

اللص: " الآن لن أستطيع أن أتركك أبداً. لقد سمّيتني صديقك، سميتني شريكك... لم يحترمني أحد قبلك، أنت أول من يدعوني (بالرجل النبيل) ...أول من يصفني بالنُّبل... سأجلس عند أقدامك وأتعلم كيف أصبح مثلك.

من أين حصلتَ على هذا النضج؟ هذه القوة؟ هذه القدرة على رؤية الأشياء بمنظور مختلف تماماً؟"

 

قال المعلّم: " هل تعلم كم شعرتُ بالأسى فعلاً في تلك الليلة؟ بعدما غادرتني، كان الجو بارداً جداً. والنوم كان مستحيلاً دون غطاء. فجلستُ قرب النافذة أتأمل البدر، وكتبت هذه القصيدة:

لو كنتُ غنياً كفاية...

لأعطيت هذا البدر الجميل لذلك الرفيق الفقير..

الذي أتى في الظلمة ليبحث عن شيء ما

في بيت رجل فقير...

لأعطيته القمر كله وثروة من المال لو أنني غني

لكنني فقير جداً...

 

سأريك القصيدة، تعال معي..

 

بكيتُ في تلك الليلة، لأن اللصوص يجب أن يتعلموا بعض الأشياء. يجب عليهم على الأقل أن يُعلِموا الناس قبل مجيئهم إلى أمثالي بيوم أو اثنين، حتى نحضّر لهم ما يأخذوه، فلا يعودون خاويي الأيدي.

 

جيد أنك تذكرتني في المحكمة، فهؤلاء الناس خطيرون، كانوا سيسيئون معاملتك.

 

لقد عرضتُ عليك في تلك الليلة أن أذهب معك ونصبح شركاء، لكنك رفضت. والآن ها قد وافقتَ... لكن لا مشكلة، تستطيع أن تأتي، سأشاركك بكل ما أملك، ولكنه ليس مادياً، بل هو شيء غير مرئي. "

  

قال اللص: "إنه شيء أشعر به، إنه غير مرئي نعم، ولكنك أنقذتَ حياتي، وهي ملكك الآن، افعل بها ما تشاء... لقد كنتُ أهدر عمري طوال الوقت. وبرؤيتي لك، والنظر في عينيك، هناك شيء واحد متأكد منه: أنك تستطيع أن تغيّرني.

لقد وقعتُ في الحب منذ تلك الليلة بالذات. "

 

...لو تأمّلنا وضعنا الراهن، لعرفنا أن نضجنا المادي هو ما أوصلنا إلى هنا....

فكرنا المادي الذي قال: " أنا والباقي إلى الجحيم"

 

ما أحوجنا في هذه الأيام إلى النّضج الحقيقي، ما أحوجنا إلى التسامح الذي سيمنعنا من رد الإساءة بالإساءة، ما أحوجنا إلى مَن يعيد فينا براءة وعفوية الأطفال...

 

مهما كبرنا جسدياً ومادياً، فلنبقى أطفالاً بالروح...

أضيفت في:9-3-2008... جسد و ساجد> أنت والجسد
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد