موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

بـــدر و بــحر

HTML clipboard

هناك حب بين الرجل والمرأة... يفيض بالحماس والحرارة والمتعة...

وهناك حب بين التلميذ والمعلم... يغوص بالاستسلام والهدوء والحكمة...

وهناك إمكانية ثالثة لأفنى وأكون كياناً من الحب... في كل لحظة وفسحة...

 

هل الحب شيء يتغير باستمرار في الإنسان...

يأتي ويذهب، ويحمل مختلف الأشكال والألوان...

أم أن الحب ببساطة هو كل شيء يكون في كل زمان ومكان؟

 

يا صديقي... الحب الذي يأتي ويذهب ليس إلا انعكاساً للحب الحقيقي.

البدر مكتمل في السماء وتنعكس صورته في البحيرة الهادئة... الانعكاس يشبه البدر تماماً، لكنه يمكن أن يتشوش بسهولة بمجرد مرور نسمة خفيفة... فيتشتت إلى آلاف القطع الفضية التي تملأ كل البحيرة، بعدها عندما تعود البحيرة إلى هدوئها يظهر البدر من جديد.

لكن القمر الحقيقي الموجود في السماء لا يتعكر بالرياح ولا بالعواصف والعواطف في الفصول... حتى أنه يبقى موجوداً في النهار بالرغم من أنك لا تستطيع أن تراه بسبب نور الشمس القوي.

 

الحب هو الحالة ذاتها بالضبط... الحب الحقيقي هو فقط أن تكون حبّاً... نبعاً يفيض بالحب... إنه ليس علاقة أو تعليقة، بل هو ذاتك وحالك في الحقيقة.

ليس له أي علاقة بأي شخص محدد، بل أنت ببساطة مليء بالحب...

يمكن للكثيرين أن يشاركوا به، ويمكن لأي عطشان أن يروي ظمأه منه....

 

هذا الحال من التجلي بالحب هو قمّة الوعي الأعلى والأسمى.. يمكن أن نسميها حالة اليقظة أو الاستنارة بنور الله المحبة والرحمة... حالة كل أولياء الله والعارفين والسالكين.

وما أُرسلتُ إلا رحمةً للعالمين...

شخص مثل النبي أو المسيح أو بودا أو الحلاج لا يحبّ... بل هو حب!

إنه لا يقوم بأي عمل.. بل حضوره وحضرته تشعّ بالحب...

هذا الحب ليس موجّهاً إلى أي شخص محدد، لا لأي طائفة أو أتباع أي دين محدد ومقيّد، بل هو عطاء لا محدود مثل نور الشمس الذي ترسله إلى كل جهة وزهرة وشجرة... حبٌ يصل إلى كل شخص حاضر لاستقباله والشعور بجماله.

 

 

الحب كحالة داخلية ما هو إلا إمكانية متاحة لأي مريد يريد فيأخذ ويزيد......

يمكنك أخذ ما تشاء حتى أكثر مما يشاء... يمكنك ملء ذاتك بقدر استطاعتك...

نبع الحب غير محدود.. يفيض باستمرار ولا يمكن أن تحبسه السدود...

إنسان في هذا الحال.. حتى لو كان جالساً لوحده يستمر بإطلاق أنوار الحب...

وهذا الحب ينعكس بأنواع مختلفة وملونة لكنها كلها ليست إلا انعكاسات في المرآة.

 

الحب بين الأصدقاء: يمكن أن يظهر بعدة أشكال لكنها دائماً متغيرة... ولا بدّ أن تتغير لأنها مجرد انعكاسات.. خيالات... وزوالها يجلب الكثير من التعاسة.

عندما تنعكس صورة القمر في البحيرة هناك فرح وجمال.. وعندما تتبدد بالرياح أو بمجرد حجرة صغيرة ترميها في الماء، يزول كل شيء ويتبعثر...

وأنت تعلم من تجاربك أن علاقات الحب مع الأصدقاء، مع الأزواج والزوجات، مع المعلمين وإخوة الطريق، كلها أشياء رقيقة مرهفة وخفيفة... أي شيء صغير يحدث وستجد اختفاء كل الحب... والحب لن يختفي فحسب بل سينقلب إلى ضده!

 

الأصدقاء سيتحولون إلى أعداء، الزوج والزوجة لا يحتاجون لأن يتحولوا لأنهم أعداء من الأساس، التلميذ سيخون ويبيع معلمه وهكذا... نحن نعرف ونختبر كل هذه الأشكال من الحب وهي كلها مشروطة.

حتى حب الأهل لأولادهم مشروط: إذا أطعتهم باستمرار ولم تتمرد وتقفز في الدار، وإذا كنت ستصير كما أرادوا لك أن تصير: سيحبّوك كثيراً... أما إذا سلكتَ طريقك الخاص بك، سنجد أن الأهل يمكن حتى أن يهجروا أولادهم ويتبرؤوا منهم ويحرمونهم من الميراث.

 

لكن هذه الانعكاسات تدلّ وتشير إلى شيء حقيقي تنعكس صورته هنا وهناك.

بدون شيء حقيقي لا يمكن أن يتشكل أي انعكاس.

في الإنسان المستنير، الحب هو طبيعته وفطرته... هواء نفَسه ونبضُ قلبه...

أينما يكون يستمر كالغيمة يهطل بأمطار الخير... وهطوله غير مشروط!

لا يطلب أي شيء منك، ولذلك لا يمكن أن يتعكر أو يتكسر...

وما لم تعرف هذا الحب، فاعلَم أنك كنت ولا تزال تحلم وتفكر بالحب.

كل هذه الانعكاسات ما هي إلا أحلام، وتجلب كثيراً من التعاسة والهم والقلق، وبين بين، تعطيك بعض اللحظات من المتعة... هذه اللحظات ليست إلا عزاء وتعويضات.

 

الحب الأصيل هو اكتفاء ورضى كبير في قرارة نفسك... اجتماع طاقاتك في مركز كيانك... هذه الاجتماع ليس جماع أو اجتماع سياسي ولا فرق، بل هو صقل لجوهرة حياتك يصنع تحوّلاً مذهلاً في وعيك وطاقتك... عندها أينما تكون، الحب سيكون..

مع البحر والشجر... مع الجبال والنجوم والبشر.. مع الطير والحجر...

لا تستطيع القيام بأي شيء، بل الحب ببساطة سيشع منك.

لقد صار لبَّ حياتك... لا يمكنك أن تمنعه وإلا ستقتل نفسك كأنك تنتحر!

 

من "علاقات الحب" عندك، تعلّم شيئاً واحداً فقط: أنه لا بدّ من وجود شيء أصيل وحقيقي وأبدي ينعكس في مرايا العلاقات. وإلى أن تعرف ذلك الحب ستعاني كثيراً ولن تجني شيئاً، ستضيّع وقتك وطاقتك وحيواتك في لعبة "المحبة والكراهية" دون أي محصول.

 

وذلك الحب يمكن أن يُعرف لأنه قدرتك المفطور عليها، البذرة التي أتت معك منذ ولادتك، وما عليك إلا الاعتناء بها قليلاً وستبدأ بالنمو.... وقريباً ستمتلئ نفسك بالأزهار... لقد أتى الربيع وطلع البدر علينا يا سلام... وعندما يأتي مرةً لن يغادرك أبداً حتى آخر لحظة.

 

قصة جميلة جداً عن أحد الأولياء... كان معلماً مشهوراً وحوله كثير من التلاميذ، وقد أخبرهم أنه حين يأتي القمر مكتملاً سوف ينتقل إلى رحمة الله.

باختفاء القمر في تلك الليلة سيختفي معه...

هذا المعلم أتى إلى الدنيا بعلامات نادرة، لقد وُلد في ليلة مكتملة القمر، استنار في ليلة مشابهة وانتقل أيضاً إلى السكن الأعلى.

 

وهكذا أتى آلاف التلاميذ من العالم لمجرد رؤيته قبل أن يغادر... كان هناك حزن كبير لكن الناس كانوا يحبسون دموعهم ليسهلوا عليه المغادرة.

وسأل المعلم: "إذا كان عندكم أي سؤال اسألوني الآن لأنني غداً لن أكون هنا... إذا كان هناك أي سؤال في قلوبكم لم تطرحوه عليّ فاسألوني... قبل أن أغادر أريد أن يكون كل تلاميذي يقظين متفتحين، بدون أي سؤال... أريدكم أن تصبحوا أجوبة لا أسئلة والسائل هو المسؤول".

 

لم يسأل أحد أي شيء... فقط أحمد، أكبر التلاميذ قال:

"لقد أجبتنا باستمرار طوال اثنتين وأربعين سنة.. لم يعد لدينا أي أسئلة.. أتينا اليوم فقط لنكون بقربك عندما تذوب في الوعي الكوني.

سمعنا من الحكايا القديمة أنه عندما يموت شخص مستنير، عند مغادرته لجسده، ينتشر وعيه ليملأ الكون بالنور والسلام... نريد اليوم أن نكون بجانبك لنتذوق طعم هذا المحيط من الصحوة والمحبة".

 

عندها قال المعلم: "حسناً، سأودعكم الآن... سوف أموت على أربع مراحل.. أولاً سأترك جسدي، ثم سأترك فكري، ثم قلبي، وفي الرابعة سأذوب في محيط الوجود مع الموجود الأوحد".

 

وأغلق عينيه... وفي تلك اللحظة بالضبط أتى رجل راكضاً بسرعة وقال:

"أريد أن أسأل شيئاً كنت أؤجله طوال ثلاثين سنة!

لقد أتى المعلم إلى قريتي عدة مرات في هذه السنين، وفكرتُ دائماً أن هذه المرة سأقابل المعلم وأطرح عليه سؤالي وحالي.. لكن شيئاً أو آخر كان يمنعني واستمر التأجيل.

نعم.. هذا غباء شديد مني... مرةً يأتيني ضيف، ومرةً أنشغل بزبائن المحل، بعدها كان هناك حفل زفاف وشاركت فيه... هكذا بقيتُ أؤجل مفكراً أنه لا يوجد داعي للعجلة، عندما يأتي في المرة القادمة سأسأله... لكن أيضاً مرضت زوجتي مرة فالتهيت.. ومرضتُ أنا مرةً فبقيت في الفراش... ومرّت السنين الثلاثين.

منذ لحظات سمعت أن المعلم يموت، والآن لا يمكنني أن أؤجل أبداً ولا يوجد أي سبب يمنعني".

 

لكن أحمد قال له:

"أتيتَ متأخراً قليلاً... لقد بدأ المعلم رحلته الداخلية وهو الآن تجاوز مرحلتين: يمكنك أن ترى جسده في صمت مطلق وهو الآن ترك فكره... صامت بلا فكر ويغوص في أعماق الذكر... ربما يحتاج الأمر لحظات قليلة وسيترك قلبه، لأن القلب هو الأداة التي كان يستعملها دائماً ليشع حبه ونور سعادته وصمته... لا يجوز أن تشوشه في هذه اللحظة الحساسة...

كان المعلم يتكلم باستمرار طوال اثنتين وأربعين سنة، والآن هذه غلطتك أنت، لم تستطع إيجاد أي وقت خلال ثلاثين سنة لطرح السؤال".

 

لكن المعلم عاد.... تنفسه الذي اختفى عاد للحركة من جديد، وقلبه عاد ينبض وامتلأ الوريد... فتح عينيه وقال:

"يا أحمد... هل تريد أن تتذكر الأجيال القادمة أن محبة ذلك المعلم كانت صغيرة جداً لدرجة أنه لم يستطع العودة عن خطوتين في حين أتى إليه إنسان عطشان؟

وأنا لا زلتُ حياً.... كنتُ سأُدان للأبد... لا تمنع هذا الرجل ودعه يسأل السؤال".

 

كانت تلك أول مرة يرى فيها الرجلُ ذلك المعلم العظيم، وفي حالة غريبة جداً: آلاف الناس يحيطون به في صمت وعيونهم مليئة بالدموع.. والمعلم كان نصف ميت: أخذ خطوتين عبر العالم الداخلي، ومجرد خطوتين بعدها سيصبح جزءاً من الكون اللامتناهي...

لكن الإنسان المتجلي في الحب.. المصنوع منه قلباً وقالباً.. حتى في مثل هذه الحالة المحالة سيشع بالحب...

لم يستطع أحمد وكل التلاميذ أن يصدقوا ما يحصل... من أجل رجل عادي، لم يكن حتى تلميذاً، وقد أجّل سؤاله في لهو وإهمال ثلاثين سنة...... لكن حب ورحمة الأنبياء والحكماء غير محدود.... طلب المعلم من الرجل أن يسأله، لكن الرجل كان مأخوذاً بشدة من هول اللحظة وهالتها ونورها فنسيَ السؤال... وقال:

"لقد اكتفيتُ بالذرتين يا رسول الله... لقد شبعت واكتفيت واستويت... حبك هذا أجاب كل أسئلتي... كنتَ نصف ميت ومع هذا رجعتَ لكي تجاوب رجلاً عادياً من السوق كان يتجنبك طيلة ثلاثين سنة، واضعاً آلاف الحجج والأعذار"...

انحنى الرجل وقبّل يد المعلم متباركاً.. وقال:

اسمح لي أن أكون آخر تلامذتك وأرجو أن تقبلني في مدرسة رحمتك.. لقد أتيتُ لأطرح سؤالاً لكن الحال الآن أزاح كل سؤال... أمام حبك الدافي كل الأسئلة تختفي.. ولا أريد أن أفوت فرصة التبارك بك قبل انتقالك".

 

استقبل المعلم هذا الرجل كآخر تلميذ عنده... وسأل مجدداً:

"هل هناك أي سؤال في بالكم؟ لأن الأمر سيكون صعباً جداً عليّ... إذا تجاوزتُ المرحلة الثالثة، تركتُ القلب وانتقلت إلى الوعي الصافي، ثم المرحلة الرابعة، ستكون العودة صعبة... حتى لو أردتُ العودة فلن أستطيع. لذلك رجاءً إذا كان عندكم أي سؤال فلا تخجلوا".

 

قال التلاميذ: "كلنا نشعر بالحزن والأسى لأن هذا الرجل قد عكّر هذه اللحظة الهامة... ولم يكن هذا مناسباً أبداً... هذه اللحظة يجب أن تكون صامتة تماماً، بحيث إذا ذبتَ في المحيط سيصلنا شيء منك نحن أيضاً"..... قال المعلم وداعاً من جديد ودخل في المرحلة الرابعة.

 

القصة رمزية وفيها مغزى ومعنى... حتى لو كانت تاريخية، لكن الشرق يعرف أن الذي لا يمكن قوله بالطرق التقليدية: يمكن أن يشار إليه بالقصص والحكايا.

وتقول القصة أنه عندما انتقل ذلك المعلم، تفاجأ الناس بأن الأشجار المصفرة التي كانت تموت عادت إلى الحياة وأزهرت وأثمرت في غير فصلها المعتاد.... كان هناك أثر عظيم لموته... الناس الذين عاشوا معه عشرات السنين ولم يستنيروا، استناروا في تلك اللحظة بالذات...

 

عندما تخلّى عن الجسد وتحرر وعي الساجد انتشر في الكون كله... لهذا أي شخص حاضر لاستقبال الموجة سيتلقى هذا النور ويتنوّر أيضاً.... حتى الأشجار لم تكن غافلة.

قبل موته كانت الطيور صامتة... وعندما مات بدأت تغرد وتحتفل...

في أي لحظة يموت فيها إنسان مستنير، يشعر العالم كله بأمطار الحب... بأمواج الوعي والصحوة... بأنوار السلام والسعادة.

لذلك لا تضع وقتك كله في الانعكاسات رغم جمالها وأهمية دورها... إنها إشارات مهمة مثل الأصابع تشير إلى القمر الحقيقي... فاستخدم الانعكاسات لإيجاد حقيقة الآيات...

وسوف تنتقل من هذا العالم المجنون إلى بيتك الداخلي المكنون... من دار الممر إلى دار المقر... هنا والآن....

 

أضيفت في:27-7-2009... الحب و العلاقات> ما هو الحب ؟
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد