موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

اصنع نارَ الوَعي داخِل الجَسد.. وخُذ عِطركَ إلى قَلبِ المعبد

بالنسبة للفلسفة، مشكلات الحياة كثيرة ولا تنتهي... لكن بالنسبة للدّين، هناك مشكلة واحدة، والمشكلة هي الإنسان ذاته.

ليس الموضوع أن الإنسان عنده مشاكل، بل الإنسان هو المشكلة... لماذا؟

الحيوانات ليست مشكلة.. إنها غير واعية أبداً، سعيدة دون وعي، جاهلة لدرجة أنه لا يوجد إمكانية لظهور أي وعي تجاه المشاكل.. المشاكل موجودة عندها لكن الحيوانات غير مدركة لها.

وليس هناك مشاكل أيضاً عند الآلهة، لأنها واعية بشكل كامل...

عندما يكون العقل مكتمل الوعي، تختفي المشاكل ببساطة مثل العتمة بحضور النور.

لكن بالنسبة للإنسان هناك عذاب ومعاناة..

مجرد وجود الإنسان بحدّ ذاته هو مشكلة، لأن الإنسان يوجد بين هاتين المملكتين: مملكة الحيوانات ومملكة الآلهة.

 

الإنسان موجود كجسر بين طرفين لا نهائيين: الجهل اللانهائي، والمعرفة اللانهائية.

الإنسان ليس كائن حيواني وليس كائن مقدس.. أو الإنسان هو كلاهما معاً: حيوان ومقدس، وهذه هي المشكلة... الإنسان هو وجود معلّق، شيء غير مكتمل، شيء لم يصير بعد، عملية تكوين حية وليست كياناً بعد.

الحيوان عنده كيان، الإنسان عملية تكوين.. عملية حية مستمرة.

والعملية غير مكتملة بعد.. لقد تركَ عالم الجهل ولم يصل إلى عالم العقل والمعرفة.

الإنسان يعيش بين بين... وذلك هو ما يصنع المشكلة والتوتر والعذاب والصراع الدائم..

 

هناك طريقتان فقط لتكون بسلام ودون مشاكل: الأولى هي السقوط والتراجع والعودة إلى عالم الحيوانات، والثانية هي الصعود والتقدّم والتجاوز لتصبح جزءاً من الكيان الكوني المقدس.. أن تصير حيواناً أو أن تصير إلهاً، هذه هي البدائل الوحيدة أمامك.

التراجع والسقوط سهل جداً، لكنه سيكون شيئاً مؤقتاً، لأنك حالما كبرتَ بالعمر فلا يمكنك العودة بشكل دائم... يمكنك التراجع للحظة، لكن مجدداً سيتم رميك للأمام ولا طريقة أبداً لعكس النمو الذي حدث.

يستحيل أن تعود كما كنت... يستحيل أن تعود طفلاً إذا كنتَ بالغاً، ويستحيل أن تعود شاباً إذا كنت كهلاً.. إذا عرفتَ شيئاً عندها لا يمكنك العودة إلى حالةٍ كنتَ فيها جاهلاً تجاهه.

لا يمكنك العودة، لكن للحظة يمكنك نسيان اللحظة وإعادة إحياء الماضي في ذاكرتك وفكرك.

 

إذن الإنسان يمكنه التراجع إلى مستوى الحيوان.. فيه سعادة لكنها مؤقتة.. لهذا السبب هناك إقبال وانجذاب كبير على الكحول والمخدرات والتدخين.

عندما تصبح غير واعي بواسطة مادة كيميائية، فأنت تتراجع للحظة.. تنسى فيها أنك إنسان وأنك مشكلة.. تعود مجدداً كجزء من عالم الحيوانات والوجود غير الواعي.. أنت عندها ببساطة لستَ إنسان ولذلك لا يوجد مشاكل.

لقد كانت البشرية ولا تزال تكتشف أشياءً مثل الكحول والكوكايين لكي تنسى، لكي تتراجع، لتعود مثل الطفل وتسترجع براءة الحيوان، ولتكون دون مشاكل: أي دون إنسانية.. فالإنسانية تعني فعلاً أن تكون مشكلة!

هذا الهبوط والتراجع ممكن، لكنه مؤقت فقط..

سوف تعود إنساناً من جديد، وستكون نفس المشكلات واقفة بانتظارك.. لا بل ستكون أشد.. غيابك لن يساعد على حلها.. ستصبح أكثر تشابكاً وتعقيداً.. فتظهر حلقة مفرغة وتستمر بالدوران دون توقف.

عندما تعود مجدداً لحالة الوعي، عليك مواجهة المشكلات التي أصبحت أكثر تعقيداً بسبب غيابك.. عندها عليك نسيان نفسك أيضاً وأيضاً.... وفي كل مرة تنسى وتهبط، مشاكلك تكبر: عليك أن تواجه إنسانيتك مجدداً.. لا يمكن للمرء أن يهرب بتلك الطريقة السهلة.. يمكنه خداع نفسه لكنه لن يهرب.

 

البديل الآخر شاقّ: إنه النموّ إلى أن تصبح كيان..

التراجع يعني غياب الوعي، أي فقدان الوعي القليل الذي نحمله..

"إلى أن تصبح كيان" يعني: فقدان اللاوعي، وأن تصبح واعياً تماماً..

كما نحن الآن، جزءٌ منا فقط واعي، جزء صغير جداً من الكيان واعي، وباقي القارة بكاملها معتمة... جزيرة صغيرة واعية والقارة بأكملها نائمة في العتمة.

عندما تصبح هذه الجزيرة الصغيرة معتمة أيضاً، تكون قد تراجعتَ وهبطت.. هذا الجهل فيه فرح وسعادة لأنك فيه غير مدرك للمشاكل.

المشاكل موجودة لكنك غير واعي تجاهها.. لذا على الأقل يبدو لك أنه لا يوجد مشاكل.. هذا هو مبدأ النعامة: أغلق عينيك والعدو سيختفي.. عندما لا تقدر أن ترى، هذا المنطق الطفولي الساذج بأنك عندما لا تقدر على رؤية شيء فهو غير موجود... هذا المنطق نفسه يقول لك إذا لم تستطع أن تشعر بالمشاكل فهي غير موجودة!

"أن تكون كيان".. أن تتجاوز الإنسانية، أن تصبح مقدساً، يعني أن تصبح واعياً بشكل كامل... ليس الجزيرة فحسب بل القارة بكاملها.. هذا الوعي سيقودك أيضاً أبعد من المشاكل، لأن المشاكل بالأساس هي بسببك أنت.

المشاكل ليست حقائق موضوعية ملموسة، بل هي ظاهرة نفسية ذاتية..

أنت مَن يصنع مشاكلك! وما لم يتمّ تحويلك ستستمر بصنع المشاكل.. تحلُّ مشكلة، وبينما تحلها تصنع عدة مشاكل لأنك تبقى كما أنت.

المشاكل ليست أشياء بل هي جزء منك.. لأنك هكذا فأنت تخلق هكذا مشاكل.

 

يحاول العلم حل المشاكل بموضوعية، ويعتقد العلم أن غياب المشاكل سيجعل الإنسان يعيش في راحة وسلام... المشاكل يمكن حلها موضوعياً لكن الإنسان لن يكون مرتاحاً، لأن الإنسان ذاته هو المشكلة.. إذا حلّ بعض المشاكل سيصنع غيرها.. فهو مَن يصنعها.

إذا أعطيته مجتمعاً أفضل، ستتغير المشاكل، لكن المشاكل ستبقى موجودة..

كمية المشاكل ستبقى نفسها دائماً لأن الإنسان يبقى كما هو والحالة فقط تتغير.

أنت تغيّر الحالة، ستغيب المشاكل القديمة لكن ستظهر مشاكل جديدة، والجديدة هي أسوأ من أي مشاكل قديمة، لأنك صرتَ معتاداً على القديمة.

مع المشاكل الجديدة ستشعر بضيق أكبر.. لهذا في عصرنا قُمنا بتغيير كامل حالتنا لكن المشاكل موجودة، مشاكل أكثر قتلاً وفتكاً ودمار... وأكثر صنعاً للتوتر والقلق والانتحار.

 

ذلك هو الفرق بين الدّين والعلم..

العلم يعتقد أن المشاكل هي أشياء أو أمور خارجية في مكان ما، وأنه يمكن تغييرها دون تغييرك.

الدين يعتقد أن المشاكل موجودة هنا.. داخلي أنا.. بل أنا هو المشكلة ذاتها.. وما لم أتغيّر فلن يتغير شيء.

الأشكال ستختلف، الأسماء ستختلف، لكن المادة الأساسية ستبقى نفسها.

سوف أصنعُ عالماً آخر من المشاكل، وسأستمر بإسقاط مشاكل جديدة من فكري..

 

هذا الإنسان غير الواعي لكيانه، غير الواعي لنفسه، هو صانع المشاكل.

مع عدم معرفة مَن هو، ماذا هو، ودون معرفة أي شيء عن ذاته وأعماقه يستمر بصنع المشاكل.. لأنك ما لم تعرف نفسك لن تستطيع معرفة لماذا أنت موجود وتعيش، ولا معرفة إلى أين عليك الذهاب، ولا الشعور بقدَرك، ولا الشعور بأيّ معنى في حياتك.. ستستمر بفعل عديد من الأشياء، لكن كل شيء سيقودك في النهاية إلى الإحباط، لأنك مهما فعلت دون معرفة لماذا أنت موجود ولأجل ماذا موجود، لن يعطيك ذاك الرضى والإشباع العميق.. مهما كان الفعل.. النقطة الهامة مفقودة وجهودك تضيع هباء.

وفي النهاية يُصاب الجميع بالإحباط.. أولئك الذين ينجحون يُحبطون أكثر من الذين يفشلون، لأن الفاشلين لا يزال عندهم أمل بالنجاح... أما الناجحين فليس عندهم حتى أمل... حالتهم تصير ميئوس منها.. لذلك أقول: لا شيء يفشل مثل النجاح!

 

الدّين يفكّر بمصطلحات ذاتية شخصية، والعلم يفكر بمصطلحات مادية موضوعية: "غيّر الحالة، لا تلمس شيئاً من الإنسان".

الدين يقول: مهما كانت الحالة، الفكر المختلف والكيان المتحوّل سيكون أبعد من كل المشاكل..

لذلك يمكن أن يعيش بعض المستنيرين مثل ديوجين أو بوذا بسلام مطلق حتى لو كان شحاذاً فقيراً... بينما ميداس لا يمكنه الشعور بالسلام حتى لو امتلك معجزة خيميائية: كل ما يلمسه يتحول إلى ذهب... الحالة مع ميداس أصبحت ذهبية، كل شيء يلامس يده يصير ذهباً... لكن هذا لا يغير أي شيء.. بل يعيش ميداس في حالة مشكلة أعقد بكثير.

اليوم، قام العلم في عالمنا بخلق حالة ميداسية تماماً... الآن يمكننا لمس أي شيء وتحويله إلى ذهب.

بوذا الشحاذ يعيش في سلام وصمت عميق لدرجة أن الملوك غارت منه.. فما هو السر؟ إنه التشديد على الإنسان.. داخل الإنسان.. هو الشيء المهم وليس الحالة.

إذن عليك تغيير داخل الإنسان، وهناك تغيير واحد فقط: إذا كبرتَ في وعيك ستتغير وتطفر وتتطور.. إذا هبطتَ في وعيك ستتغير أيضاً وتطفر لكن إذا تناقص وعيك ستهبط باتجاه الحيوانات... أما إذا زاد وعيك ستصعد باتجاه الآلهة.

 

هذه هي المشكلة الوحيدة بالنسبة للدّين: كيف نزيد الوعي.. لذلك كان الدين دائماً ضد المخدرات والكحول.. السبب ليس أخلاقي أو متعلق بالفضائل.. لا!

لقد أعطى مبشرو الأديان والفضائل والمواعظ معنى خاطئاً لكامل الموضوع..

بالنسبة للأديان، ليس الموضوع قضية أخلاق إذا تناول شخص ما المخدرات.. ليس قضية أخلاق أبداً لأن الأخلاق تبدأ فقط عندما أتواصل مع شخص آخر.

إذا شربتُ الكحول وأصبحت غير واعي فهذا شأني أنا ولا علاقة له بالآخرين، لأنني بهذا أفعل شيئاً تجاه نفسي.. العنف هو قضية أخلاقية وليس الكحول.. حتى لو أعطيتك وعداً بمقابلتك في موعد محدد ولم آتي، فهذا غير أخلاقي لأن شخصاً آخر مرتبط بالموضوع.. الكحول يمكن أن يصبح قضية أخلاقية فقط إذا أثر على شخص آخر، وإلا فلا علاقة له بالفضيلة أو الخُلق.. إنه شيء خاص بك أنت فقط.

بالنسبة للأديان، الموضوع ليس قضية أخلاق أبداً: إنه يتعلق بزيادة أو إنقاص الوعي.

حالما تصير عندك عادة الهبوط إلى اللاوعي، ستصبح زيادة الوعي أصعب فأصعب... ستصبح أصعب لأن جسدك لن يدعمك في زيادة الوعي... بل سيدعمك في إنقاص الوعي.. الاستقلاب ذاته في جسمك سيساعدك أن تكون غير واعي.. لن يساعد أبداً على نهوض الوعي.. وأي شيء يشكل عائقاً أمام زيادة الوعي هو مشكلة دينية، وليس مشكلة أخلاقية.

يحدث أحياناً أنك تجد شخصاً سكراناً لكنه أكثر أخلاقاً بكثير من شخص لا يشرب الكحول، لكنه ليس أكثر تديناً أبداً... السكران قد يكون أكثر رحمة وتعاطف من شخص لا يشرب، قد يكون محباً أكثر، صادقاً أكثر، لكن ليس أكثر تديناً أبداً.. وعندما أقول "ليس أكثر تديناً أبداً" أقصد ليس شخصاً أكثر يقظة ووعي.

 

هذا النمو في الوعي يصنع المعاناة..

من الجيد هنا فهم قصة الإنجيل القديمة عن آدم وحواء.. تمّ طردهما من الجنة.. من حديقة فردوس عدن الجميلة.. هذه قصة نفسية عميقة جداً.

في الجنة، سمح الله لهما بأكل أي شيء يرغبون به باستثناء ثمرة واحدة.. شجرة واحدة ممنوع لمسها تماماً وتلك كانت شجرة المعرفة.

هذا غريب، الله يمنع أطفاله من تناول ثمار شجرة المعرفة!؟ يبدو هذا متناقضاً جداً.. ما هو نوع هذا الإله؟ وما هو نوع هذا الأب الذي يقف ضد تحوّل أولاده إلى عارفين وحكماء؟ هذه القصة شوشت وأربكت كثيراً من العقول عبر التاريخ.

لماذا كان على الله منع المعرفة؟ نحن نعطي قيمة كبيرة جداً للمعرفة، لكنها كانت ممنوعة.

عاش آدم وحواء في عالم الحيوان.. وكانا سعداء لكنهما كانا جهلاء.. الأطفال سعداء لكنهم أيضاً جهلاء.. والأطفال إذا كان عليهم أن يكبروا، فيجب أن يكبروا في المعرفة.

ليس هناك أي طريقة أخرى للنمو... وإذا كنتَ جاهلاً، قد تكون سعيداً لكن لا يمكنك أن تكون واعياً لسعادتك.

يجب فهم هذا: يمكن أن تكون سعيداً عندما تكون جاهلاً، لكنك لا تقدر أن تشعر بسعادتك ولا أن تُدركها.. في اللحظة التي تبدأ فيها تشعر بسعادتك، ستكون خارج الجهل.. لقد دخلتَ المعرفة وأصبحتَ شخصاً عارفاً.

إذن عاش آدم وحواء كمجرد حيوانات في البداية، جهلاء تماماً وسعداء.. لكن تذكر، هذه السعادة أيضاً لم تكن في الحقيقة معروفة بالنسبة لهما.. كانوا سعداء فحسب دون معرفة ذلك.

تقول القصة أن الشيطان وسوس لهما وأغرى حواء بأكل التفاحة، وسبب قدرته على إغرائها لأنه أخبرها: "إذا أكلتم من هذه الثمرة، ستصبحون مثل الآلهة"... هذا له معنى كبير... ما لم تأكل هذه الثمرة من شجرة المعرفة، فلن تقدر أبداً أن تكون مثل الآلهة، وستبقى مثل الحيوانات... ولهذا قام الله بحجب الشجرة ومنعهما من أكل ثمارها وحتى لمسها.. لكن تم إغوائهما!

 

هذه الكلمة.. شيطان.. جميلة ومقدسة مثل كلمة الله ومثل إنسان... ميزان... قرآن... بالأصل، قالوا أن الشيطان هو ملاك مصنوع من النار.. ليس شر أو سوء لكنه رمز للفكر الذي يحكم ويرفض ويفرق بين البشر... الله ليس شخصاً والشيطان ليس شخصاً، إنها رموز لأشياء داخلنا يجب فهمها.

أيضاً الشيطان بالإنكليزية Devil وأصل الكلمة في السنسكريتية Deva Devata ومعناها الله أيضاً.. القداسة موجودة في كل شيء حتى في الشيطان... اسأل رابعة العدوية عاشقة الله.. لذلك يبدو أن القصة المسيحية القديمة ناقصة ومُفسرة خطأ بطريقة ما.

هناك شيء معروف: الشيطان ذاته كان إلهاً أو ملاكاً متمرداً رفض أوامر الله، لكنه كان إلهاً بحد ذاته.

لماذا أقول هذا؟ لأنه بالنسبة لي ليس هناك قوّتان في العالم من الله ومن الشيطان... ذلك الانقسام مزيف.. هناك طاقة مقدسة وواحدة.. لا إله إلا الله!! والانقسام ليس بين عدوّين، بل بين قطبين من طاقة واحدة: الله والشيطان.. القلب والفكر.. طاقة واحدة ترقص بين طرفين، لأنه ما لم تنتقل الطاقة مثل الكهرباء بين قطبين موجب سالب لا يمكن أن تعمل.

بالنسبة لي، قصة الإنجيل تأخذ معنى جديداً تماماً.. لقد منعك الله لأنه يمكن إغراؤك فقط إذا تم منعك! لو أن شجرة المعرفة لم يتمّ ذكرها أبداً، يبدو من غير المحتمل أن يفكر آدم أو حتى يتخيل أن يأكل من تلك الشجرة... فردوس عدن كانت كبيرة وفيها عدد لا نهائي من الأشجار.. ونحن لا نعرف حتى اسم أي شجرة أخرى!

 

أصبحت هذه الشجرة مهمة لأنها أصبحت ممنوعة.. هذا المنع أصبح دعوة، هذا الإنكار أصبح إغراء.. ليس الشيطان هو من أغوى وأغرى في الحقيقة.. بل في البداية، الله ذاته هو مَن حرضهم وهذا كان التحريض: "لا تقتربوا من شجرة المعرفة، ولا تأكلوا من ثمارها.. شجرة واحدة فقط ممنوعة عنكم، وأنتم أحرار بالنسبة لبقية الأشجار".. فجأة أصبحت هذه الشجرة الوحيدة أهم شجرة في الجنة.

وبالنسبة لي، "الشيطان" هو مجرد اسم آخر للمقدس.. القطب الآخر.. والشيطان أغرى حواء لأنها ستصبح عندها "مثل الآلهة" ذلك كان الوعد.. ومَن لا يرغب بألا يكون مثل الآلهة؟ مَن سيرفض؟

 

تم إغراء آدم وحواء، ثم تم طردهما من الجنة.. لكن هذا الطرد هو جزء من العملية.. في الحقيقة، تلك الجنة كانت هي الوجود الحيواني: سعيد لكنه جاهل.. وبسبب تناول هذه الثمرة من شجرة المعرفة، أصبح آدم وحواء بشراً... قبل ذلك لم يكونوا بشراً.. "أصبحا بشراً" أقصد بذلك أنهما أصبحا مشاكل.

قيل أن أولى الكلمات التي قالها آدم عندما خرج من بوابة الجنة كانت: "نحن نعيش في عصر ثوريّ"... لقد كان عصراً ثورياً فعلاً.. لن يعرف الفكر البشري ثورةً أخرى مثل هذا الطرد من عالم الحيوان.. الطرد من وجود سعيد وجاهل.. كانت تلك ثورة هائلة، وكل الثورات الأخرى لا تبدو شيئاً بالمقارنة معها.

لكن لماذا تم طردهما؟ في اللحظة التي تعرف فيها، في اللحظة التي تصبح واعياً فيها، لن تقدر بعدها أن تعيش بسعادة.. ستظهر المشاكل! وحتى لو كنتَ في سعادة ستأتي هذه المشكلة إلى فكرك: "لماذا أنا في سعادة؟ ما هو السبب؟".. وأنت لا تستطيع الشعور بالسعادة ما لم تشعر بالمعاناة، لأن كل شعور ممكنٌ فقط مع الشعور المعاكس له.. يمكنك الشعور بالفرح فقط إذا بدأت تشعر بالحزن.. يمكنك الشعور بالصحة فقط إذا بدأت تشعر بالمرض.. لا يمكن أن تكون واعياً للحياة ما لم تصبح خائفاً من الموت.

 

الحيوانات تعيش، لكنها غير واعية بأنها حية، لأنها غير واعية تجاه أي موت.

الموت ليس مشكلة بالنسبة لها، لذلك تعبر خلال الحياة، لكنها غير حية بنفس المعنى الموجود عند الإنسان.

الإنسان يصبح حياً، واعياً تجاه كونه حياً، فقط بسبب الموت..

مع المعرفة، تأتي القطبية إلى الوجود، ومع القطبية تأتي المشاكل.. وتصير كل لحظة صراعاً وتناقض... عندها في كل لحظة تصبح معلقاً بين حبلين.. لن تكون مجدداً شيئاً واحداً.. ستبقى مقسوماً ومهموماً في صراع وهيجان داخلي.

إذن كانت تلك ثورة فعلاً.. بل كانت الثورة: تم طرد آدم وحواء.

هذه القصة جميلة جداً.. لم يقم أحد بطردهما ولم يأمرهما أي أحد.. لم يقل لهما أحد: "اخرجا من هنا!".. بل فجأة صاروا خارجاً.. في اللحظة التي أصبحا فيها واعيين لم يكونوا في الجنة أبداً.. كان ذلك تلقائياً.

فكر بذلك كالتالي: هناك كلب جالس هنا، فجأة أصبح مدركاً للحالة.. عندها يتم طرده.. لم يقم أحد بطرده، لكنه لم يعد حيوان بعد الآن.. تم إخراجه من حالة الحيوان ولن يقدر أبداً أن يرجع كما كان.

 

حاول آدم وحواء مراراً أن يعودا ويدخلا الجنة، لكنهما لم يجدا البوابة حتى الآن.. استمرا بالبحث والدوران لكن البوابة تفوتهم دائماً.. ليس هناك بوابة.

الطرد كلي ونهائي تماماً.. لا يمكنهما الدخول مجدداً لأن المعرفة هي ثمرة حلوة ومرّة في نفس الوقت.. حلوة لأنها تعطيك القوة، ومرة لأنها تعطيك المشاكل.. حلوة لأنك وللمرة الأولى تصبح فيها "أنا"، ومرة لأنه مع الأنا ستصيبك كل أنواع الأمراض.. إنها سيف ذو حدّين.

تم إغراء آدم وحواء لأن الشيطان قال لهما: "ستصبحان مثل الآلهة.. أقوياء وعارفين بكل شيء".. المعرفة قوة، لكنك إذا عرفتَ فعليك أن تعرف وجهيّ العملة سوية.. يمكنك الشعور بمزيد من الحياة، يمكنك أن تكون أكثر سعادة، لكنك ستصير واعياً للموت.. ستكون أكثر سعادة، ولكن بنفس المقدار عليك المعاناة من العذاب.. هذه هي المشكلة، انقسام عميق بين قطبين.

يمكنك الشعور بالحياة، لكن عندما يكون هناك موت يتسمم كل شيء.. عندما يكون الموت موجوداً فكل شيء وكل لحظة فيها خوف وقلق.. كيف يمكنك أن تكون حياً إذا كان هناك موت؟ كيف يمكنك الشعور بالسعادة عندما تكون المعاناة موجودة؟ وحتى إذا جاءت لحظة من السعادة إليك، فهي تهرب بسرعة.. وعندما تكون تلك اللحظة حاضرة، حتى عندها ستدرك أن التعاسة والحزن مخفيّ خلفها في مكان ما... وتقول لنفسك الله يجيرنا شرّ هالضحكة! سيأتي الهمّ عاجلاً أم آجلاً.. هكذا حتى لحظة السعادة يتم تسميمها بوعيك بأن هناك حزن مخفي في مكان ما.. وعليك أن تمرّ فيه حتماً بعد لحظات السعادة.

 

الإنسان يصبح واعياً للمستقبل، واعياً للماضي، واعياً للحياة، وواعياً للموت..

Kierkegaard قد دعا هذا الوعي بـ"العذاب".. يمكنك الهبوط والتراجع، لكن ذلك حل مؤقت.. مجدداً ستعود وتصعد.. لذلك الاحتمال الوحيد هو أن تنمو، تنمو في المعرفة إلى نقطة يمكنك فيها القفز والخروج منها، لأن القفزة ممكنة فقط من الأطراف القصوى.

لدينا طرف واحد وهو الهبوط.. يمكننا القيام به لكنه مستحيل لأننا لا يمكننا البقاء فيه... سيتم رمينا مجدداً للأمام والأعلى.. الطرف الآخر هو إذا كبرنا في الوعي، هناك نقطة عندما تكون واعياً تماماً، حيث يمكنك التجاوز.

 

نحن قد "عرفنا" والآن يجب أن نعرف شيئاً أبعد من المعرفة..

لقد خرجنا من الجنة بسبب المعرفة، ويمكننا العودة إلى هذه الجنة مجدداً فقط عندما نرمي هذه المعرفة.. لكن هذا الرمي ليس ممكناً بالتراجع، تلك البوابة التي طُرد منها آدم لا يمكن إيجادها مجدداً، بل يمكننا إيجاد بوابة أخرى دخل منها المسيح والنبي وعلي وبوذا والحلاج ورابعة.. يمكننا رمي هذه المعرفة، يمكننا رمي هذا الوعي، لكن فقط من النقطة المتطرفة التي نكون فيها واعيين تماماً.

عندما يصير المرء واعياً تماماً، عندما حتى هذا الشعور "أنا واعي" يتم رميه، عندما يصير المرء مثل الحيوانات تماماً عندما تكون سعيدة وفرحة (وهي لا تعرف أنك عندما تصير واعياً تماماً تصير إلهاً) إذا كان ذلك الوعي تاماً، عندها ستكون واعياً ببساطة دون معرفة أنك واعي..

هذا الوعي البسيط سيبدأ عملية الدخول إلى الجنة، لا بل سيكون هو الدخول ذاته.. وستكون مجدداً في الحديقة.. ليس مثل الحيوانات الآن، بل مثل الآلهة... وهذه عملية محتومة.

 

هذا الطرد لآدم ودخول المسيح أو النبي هو عملية محتومة..

على المرء أن يُطرد خارج جهله: هذه هي أول خطوة...

ثم على المرء أن يُطرد خارج معرفته: هذه هي ثاني خطوة.

 

سرّ اليوم له علاقة بالوعي... اصنع نارَ الوَعي داخِل الجَسد، وخُذ عِطركَ إلى قَلبِ المعبد.. صُنع نار الوعي الداخلي هو أعظم الأسرار وأسطع الأنوار.

 

أولاً يجب فهم ما هو المقصود بالوعي.

بينما أنت تمشي، أنت واعي لعدة أشياء: المحلات، الأشخاص العابرين قربك، السيارات وكل شيء.. أنت واعي لكثير من الأشياء لكنك غير واعي لشيء واحد وهو نفسك!.. هذا الوعي للنفس يدعوه غوردجيف "تذكّر النفس"... ويقول غوردجيف: "باستمرار.. وأينما كنت، تذكّر نفسك".

كمثال، أنت الآن جالس وتقرأ هذه السطور لكنك غير واعي للقارئ داخلك.. أنت واعي لما تقرأ لكنك غير واعي لمَن يقرأ.. فكُن واعياً.. اشعر بنفسك هنا والآن.. ستأتي ومضة وتتذكر نفسك لكنك ستنسى مجدداً.. جرّب!

مهما كنت تفعل، استمر بفعل شيء واحد دائماً داخلك: كُن واعياً تجاه نفسك وأنت تقوم به.. عندما تأكل، كن واعياً لنفسك.. عندما تمشي، كن واعياً لنفسك.. عندما تسمع وعندما تتكلم، كن واعياً لنفسك.

عندما تغضب، كن واعياً لأنك غاضب.. في نفس اللحظة التي يظهر فيها الغضب، كن واعياً لأنك غاضب.

هذا التذكر المستمر للنفس يصنع طاقة خفية داخلك.. معها ستبدأ تصبح كياناً نقياً ومتبلوراً مثل الكريستال.

في العادة، أنت مجرد بالون مملوء بالماء.. لا يوجد تبلور ولا يوجد مركز داخلك.. مجرد سائل واجتماع رخو لكثير من الأشياء دون أي مركز... حشدٌ غفير يتحرك ويتغير باستمرار دون سيّد داخله.

الوعي معناه أن تكون سيداً! و"كن سيداً" لا يعني أن تكون متحكماً.. بل أن تكون حضوراً حاضراً ومستمراً.

مهما كنت تفعل أو لا تفعل، شيء واحد يجب أن يبقى دائماً في وعيك: أنك أنت موجودٌ هنا.

هذا الشعور البسيط بالنفس، بحضور النفس، يصنع مركزاً.. مركزاً من الصمت والاستقرار والسيادة الداخلية.. قوة داخلية..

إنها فعلاً قوة هائلة مثل النار.. نار الوعي.. إنها نار وأنوار!

 

إذا بدأتَ تكون واعياً ستبدأ تشعر بطاقة جديدة داخلك، نار جديدة، حياة جديدة... وبسبب هذه الحياة الجديدة والقوة والطاقة، كثيرٌ من الأشياء التي كانت تسيطر عليك تبدأ بالذوبان.. ولا حاجة لأن تتقاتل معها.

عليك أن تتقاتل مع غضبك، مع طمعك، مع الجنس عندك، لأنك ضعيف... لذلك ليس الغضب والطمع والجنس هي المشكلة حقاً... الضعف هو المشكلة.. حالما تبدأ تصبح أقوى من الداخل، مع شعور من الحضور الداخلي بأنك موجود، ستصبح طاقتك مركزة ومتبلورة في نقطة واحدة، وتُولَد النفس داخلك.. تذكر، تولد نفس وليس أنا.

الأنا هي شعور مزيف من النفس.. دون امتلاك أي نفس تستمرّ باعتقاد أن لديك نفس.. تلك هي الأنا... الأنا تعني نفساً مزيفة.. أنت لستَ نفساً ومع ذلك تعتقد أنك نفس.

 

ماجد، مريدٌ باحث عن الحقيقة، أتى إلى المعلم فريد... سأله المعلم: "عن ماذا تبحث؟".. أجاب ماجد: "إنني أبحث عن نفسي.. رجاءً ساعدني!"

فطلب منه المعلم أن يعده بتنفيذ أي شيء سيطلبه منه..

بدأ ماجد بالبكاء وقال: "كيف يمكنني أن أعدك؟ أنا لستُ هنا.. أنا غير موجود بعد.. فكيف سأعدك؟ لا أعرف ماذا سأصبح غداً.. ليس لديّ أي نفس تستطيع أن تعد، لذلك لا تطلب مني المستحيل.. سوف أحاول.. هذا كل ما يمكنني قوله الآن: سوف أحاول.. لكن لا أستطيع قول أنني سأفعل كل ما تقول، فمَن الذي سيفعله!؟ إنني أبحث عن ذلك الذي يقدر أن يعد ويقدر أن يوفي بوعده.. أنا لست موجوداً بعد".

قال المعلم فريد: "يا ماجد... لقد سألتُ ذلك حتى أسمع منك هذا الجواب.. أحسنت.. لو أنك وعدتني لطردتك خارجاً.. لو أنك قلت: أعدك أنني سأفعل، عندها سأعرف أنك لستَ باحثاً حقيقياً عن النفس، لأن الباحث يجب أن يعرف أنه ليس حاضراً بعد... وإلا ما هي الغاية من البحث؟... إذا كنتَ موجوداً سلفاً فلا حاجة.. أنت غير موجود بعد! وإذا قدر المرء على الشعور بهذا، عندها ستتبخر الأنا".

 

الأنا هي فكرة مزيفة عن شيء غير موجود أبداً... "النفس" تعني مركزاً يستطيع أن يعد.

يتم صنع هذا المركز بأن تكون واعياً باستمرار.. كن واعياً لأنك تفعل شيئاً ما، لأنك جالس، لأنك الآن ستخلد للنوم، أن النوم قادمٌ إليك، وأنت تغط في النوم... حاول أن تكون واعياً في كل لحظة، وعندها ستبدأ تشعر أن مركزاً قد وُلد داخلك، والأشياء بدأت تتبلور، وصار هناك تمركز.. الآن كل شيء صار مربوطاً بالمركز.

نحن نعيش دون مراكز... أحياناً نشعر بالتمركز، لكن تلك اللحظات تعبُر عندما تجعلك الحالة واعياً متيقظاً.. إذا حدثت فجأة حالة، حالة خطيرة مثلاً، ستبدأ تشعر بمركز داخلك لأنك في الخطر تصبح واعياً جداً... إذا كان هناك شخص يريد قتلك، لا يمكنك أن تفكر أبداً في تلك اللحظة، ولا يمكنك أن تكون غير واعي فيها.. يتم تمركز كامل طاقتك فتصبح تلك اللحظة صلبة قوية جداً.. لا تستطيع الذهاب إلى الماضي ولا إلى المستقبل.. هذه اللحظة ذاتها تصبح كل شيء.. وعندها أنت لستَ واعي للقاتل فحسب، بل تصير واعياً للمقتول أنت نفسك أيضاً.

في تلك اللحظة الغامضة تبدأ تشعر بمركز داخلك.. ذلك هو سبب اندهاش وانجذاب الناس إلى الألعاب الخطرة.. اسأل شخصاً يتسلق الجبال العالية.. عندما وصل هيلاري إلى قمة جبل إيفيريست لا بد أنه شعر فجأة بمركز في كيانه.. وكذلك عندما تقود سيارتك وتزيدُ السرعة أكثر فأكثر حتى تصبح السرعة خطرة.. عندها لا يمكنك التفكير لأن الأفكار تتوقف.. عندها لا يمكن أن تحلم ولا أن تتخيل أي شيء.. اللحظة الحاضرة تصبح هي كل ما لديك.. في أي لحظة خطرة يواجهك فيها الموت السريع ستصبح مُدركاً فجأة لمركز داخلك.. الخطورة لها جذب فقط بسبب الشعور بالمركز.

 

قال نيتشه في مكان ما، أن الحرب يجب أن تستمر، لأنه فقط خلال الحرب نشعرُ أحياناً بالنفس... نشعر بالمركز.. لأن الحرب خطر.. وعندما يصبح الموت حقيقة أمامك، تصبح الحياة قوية وحيوية.

عندما يكون الموت قريباً جداً، تصبح الحياة قوية وأنت تصبح متمركزاً.. لكن في أي لحظة عندما تصبح واعياً لنفسك هناك تمركز أيضاً.. لكن إذا كان التمركز يعتمد على الحالة الخارجية، سيزول عندما تنتهي تلك الحالة... يجب ألا يعتمد على الحالة، يجب أن يكون شيئاً داخلياً.

لذلك حاول أن تكون واعياً في كل نشاط اعتيادي..

عندما تجلس على الكرسي، حاول أن تكون واعياً للجالس عليها.. ليس فقط الكرسي، ليس فقط الغرفة والمنظر المحيط بك، بل كن واعياً للجالس ذاته.. أغمض عينيك واشعر بنفسك واحفر عميقاً داخلك مع هذا الشعور.

 

كان ودود يتعلم عند معلم تأمل.. يتعلم منذ ثلاث سنوات متواصلة علم رماية السهام.. هذه إحدى طرق التأمل والوعي في مدارس الزنْ الشرقية.. وكان المعلم يقول له دائماً: "جيد يا ودود.. كل ما تفعله جيد، لكنه لا يكفي".

بعد فترة أصبح ودود ذاته معلماً بارعاً في رماية السهام.. وأصبحت نسبة إصابته للهدف 100%، ولا يزال معلمه يقول له: "أنت تعمل جيداً.. لكن لا يكفي حتى الآن".

قال ودود مستغرباً: "مع أنني أصيب كل الأهداف 100%!؟ ما هي توقعاتك إذن؟ كيف يمكنني أن أفعل أفضل من ذلك؟ مع هذه الإصابة التامة ماذا تتوقع أكثر؟"

قال المعلم: "إنني غير مهتم برمايتك للسهام أو بأهدافك.. بل مهتم بك أنت.. لقد أصبحتَ مهندساً تقنياً بارعاً وكاملاً، لكن عندما يغادر سهمك القوس أنت غير واعي لنفسك، لذلك رميك فاشل بلا جدوى!.. لستُ مهتماً بالسهم ووصوله إلى الهدف.. أنا مهتم بك! عندما تشد السهم داخل القوس، يجب أن تشد الوعي داخلك أيضاً.. عندها حتى لو لم تصب الهدف فلا يوجد فرق، لكن الهدف الداخلي يجب ألا تفوتك إصابته، وأنت تفوتك... لقد أصبحتَ تقنياً بارعاً، لكنك شخص مقلّد فحسب".

لكن بالنسبة للفكر الغربي، أو حقاً بالنسبة للفكر الحديث أينما كان، من الصعب جداً فهم ذلك.. لأنه يبدو شيئاً سخيفاً.. فنّ رماية السهام يهتم بتأثيرٍ داخلي محدد ينتج عند التسديد للهدف ورمي السهام.

بالتدريج زاد إحباط ودود.. وفي أحد الأيام قال: "أنا راحل الآن.. يبدو الأمر مستحيلاً! عندما تسدد نحو هدف ما، فإن وعيك يذهب إلى الهدف، إلى الشيء الذي أمامك، وإذا أردت أن تصبح رامياً ناجحاً فعليك أن تنسى نفسك، وتتذكر الهدف فقط، تنسى كل شيء سواه... لا يوجد شيء في تلك اللحظة إلا الهدف".

لكن معلم التأمل كان يُجبره دائماً على خلق هدف آخر داخل نفسه.. هذا السهم يجب أن يكون ثنائي الاتجاه.. سهمان معاً: سهم باتجاه الهدف الخارجي، وسهم يشير دائماً إلى الداخل إلى النفس.

قال ودود: "سأرحل الآن لأن الأمر مستحيل.. شروطك تعجيزية لا يمكن تحقيقها".

 

وفي يوم مغادرته، كان جالساً فحسب.. كان عليه توديع معلمه، وكان المعلم يسدد تجاه هدف ما لأن تلميذاً آخر كان يتعلم معه... للمرة الأولى لم يكن ودود منشغلاً بما يحدث.. أتى فقط لتوديع المعلم.. عندما ينتهي المعلم من درسه سيودعه ثم يرحل.. لكن عندها وفجأة، أصبح واعياً للمعلم ولوَعي المعلم ثنائي الاتجاه.. كان المعلم يسدد السهم، طوال ثلاث سنوات متواصلة كان ودود مع نفس المعلم، لكنه كان مهتماً أكثر بجهوده الخاصة به.

لم يرَ فعلاً هذا الرجل من قبل وماذا كان يفعل.. للمرة الأولى رأى وأدرك، فجأة وعفوياً ودون جهد، أتى إلى المعلم وأخذ القوس من يده، سدد إلى الهدف وأطلق السهم.. فقال له المعلم: "أحسنت!! لقد فعلتَها للمرة الأولى! وأنا سعيدٌ بك الآن".

ماذا فعل؟ لقد كان ولأول مرة متمركزاً داخل نفسه... كان الهدف موجوداً هناك، لكنه هو كان موجوداً أيضاً.. حاضراً.. لذلك، مهما كنتَ تفعل، ولا حاجة لأي رمي سهام أو مخاطرة، مهما كنت تفعل حتى لو كنت جالساً كُن سهماً ثنائي الاتجاه.. تذكر ماذا يجري في الخارج وماذا يجري في الداخل أيضاً.

 

كان أحد المعلمين يلقي محاضرة صباحية... قام فجأة أحد الحاضرين وسأل: "فقط أجب على سؤال واحد: مَن أنا؟".. نزل المعلم وذهب إلى الرجل.. أصبحت القاعة بكاملها صامتة.. ماذا سيفعل المعلم؟

لقد كان سؤالاً بسيطاً، وكان بإمكانه الإجابة من كرسيه.. لكنه وصل إلى الرجل.. وقف أمامه بصمت ونظر إلى عينيه.. كانت لحظة خارقة عميقة جداً.. توقف فيها كل شيء.. وبدأ الرجل يتعرق.. كان المعلم يحدّق في عينيه فحسب.. وعندها قال المعلم: "لا تسألني.. اذهب إلى داخلك وأوجد مَن هذا الذي يسأل.. أغمض عينيك.. لا تسألني: من أنا؟.. اذهب داخلك واكتشف الكشف، مَن هذا الذي يطرح السؤال؟.. انسَ أمري أنا.. واكتشف مصدر السؤال.. اذهب بعمق داخل نفسك!"

قيل أن ذلك الرجل فعلاً أغمض عينيه، صار صامتاً، وفجأة أصبح من المستنيرين.. فتح عينيه ثم ضحك، انحنى للمعلم وقال: "لقد أجبتني حقاً.. كنتُ أطرح نفس السؤال على كل شخص، وأعطوني كثيراً من الأجوبة، لكن لم يثبت أن أي جواب منها كان صحيحاً.. لكنك أجبتني الآن".

 

"من أنا؟".. كيف يمكن لأي شخص أن يجاوبك؟ لكن في تلك الحالة المحددة، ألف شخص صامت تماماً، ونزل المعلم ونظر إليه بعيون قوية ثم قال له: "أغلق عينيك.. اذهب للداخل واكتشف مَن هو السائل.. لا تنتظرني حتى أجاوبك"... أغلق الرجل عينيه.. وماذا حدث في تلك الحالة؟ لقد أصبح متمركزاً.

فجأة صار متمركزاً.. فجأة صار واعياً للجوهر الأعمق داخل كيانه..

 

يجب اكتشاف هذا، والوعي يعني طريقة اكتشاف هذا الجوهر العميق..

كلما كنتَ أكثر لاوعي، كنتَ أبعد عن نفسك،

كلما كنتَ أكثر وعي، كنتَ أقرب إلى نفسك..

إذا كان الوعي كاملاً ستصل إلى المركز..

إذا كان الوعي أقل ستكون أقرب إلى المحيط.. وفي المحيط تنسى تماماً المركز.. لذلك هناك احتمالين للتحرك.

يمكنك التحرك إلى المحيط، وعندها تتحرك إلى اللاوعي.. جالساً تشاهد فيلماً، أو تسمع للموسيقى، ستكون عند المحيط.. حتى أثناء القراءة الآن قد تنسى نفسك.. حتى عندما تقرأ القرآن والإنجيل قد تنسى نفسك وتكون عند محيط الدائرة.

مهما كنتَ تفعل، إذا استطعتَ تذكر نفسك ستكون قرب المركز.. بعدها يوماً ما فجأة يحدث لك التمركز التام.. عندها ستمتلك طاقة.. تلك الطاقة يقول لك سر اليوم أنها نار.

 

الحياة بكاملها والوجود كله عبارة عن طاقة، أو نار.. النار هي الاسم القديم، والآن يدعونها كهرباء.. أو أورغون..

كان الإنسان عبر العصور يدعوها بكثير من الأسماء.. لكن اسم النار جيد.. الكهرباء تبدو ميتة باردة نوعاً ما.. النار أكثر حياة.. هذه النار الداخلية، يقول لك السر، أنها أهم عطر داخلي وخارجي.

منذ ألوف السنين ارتبطت الصلاة والمعابد بحرق أنواع البخور واللبان.. لكن ذلك البخور عديم الفائدة إذا لم تجلب معك نارك الداخلية التي تشتعل فيك وتطلق النور والعطور.. خذوا عطركم عند كل معبد.. هذه الكلمة قالتها كل الكتب المقدسة وعدة أنبياء.. إنهم يحاولون إعطاء معاني داخلية للأشياء والرموز الخارجية.. كل رمز له شيء مقابل داخلنا.. الشيء الخارجي جيد بحدّ ذاته، لكنه غير كافي.. وهو شيء رمزي فحسب وليس مادة الجوهر المقصودة.

 

لا بد أنك رأيت أو حرقتَ أعواد البخور أو أحجار اللبان في المعابد.. هي عادة جيدة، لكنها مجرد رمز خارجي.. هناك حاجة للنار الداخلية.. ومثلما تحرق النار البخور وتطلق العطور، كذلك النار داخلك تطلق أجمل عطر وسحر.

قيل عن عدة حكماء قدماء أنهم عندما يسيرون في مكان ما، سيشعر الجميع بحضورهم مثل عطر غامض... طبعاً، احذروا من الدجالين المشعوذين الذين يجمعون ألوف الأتباع بحركات السحر والخرافات... ولكن تلك حقيقة قليلة ممكنة.. كلما أصبحتَ متمركزاً أكثر داخل نفسك، كلما صار كل حضورك عطراً.. وأولئك الذين عندهم حساسية واستقبال سيشعرون به..

إذن إذا دخلتَ معبد، والأفضل أن تجعل بيتك وقلبك معبداً لك، لا تأخذ معك البخور الخارجي بل خذ نار الحضور الداخلي.. هذا البخور داخلك يمكن تحقيقه من خلال الوعي فقط ولا يوجد طريقة أخرى.

افعل كل شيء بيقظة ووعي.. إنها رحلة طويلة وشاقة، ومن الصعب أن تكون واعياً حتى للحظة واحدة.

الفكر يبرق ويقفز دائماً.. لكن الأمر ليس مستحيلاً.. صعب وشاق لكن ليس مستحيلاً.. بل ممكن ومتاح للجميع!.. فقط تحتاج للجهد والنية والعمل من كل قلبك.. لا تترك شيئاً خلفك: لا تترك أي شيء داخلك دون تقليب وتفحص.

 

يجب التضحية بكل شيء لأجل الوعي.. عندها فقط يتم اكتشاف اللهب الداخلي..

إنه هناك.. إذا بحثنا عن الوحدة الأساسية المشتركة بين كل الأديان التي ظهرت أو التي قد تظهر، ستكون هذه الكلمة هي المفتاح المشترك: الوعي.

 

يروي المسيح قصة عن رجلٍ هو سيد بيت كبير وقد خرج في سفر، وكان قال للخدم أن يكونوا متيقظين دائماً.. لأنه قد يعود في أي لحظة.. هكذا كان عليهم التيقظ 24 ساعة. أي لحظة سيعود سيدهم!.. ليس هناك لحظة محددة ولا موعد ولا يوم موعود.. لو كان هناك موعد ثابت، يمكنك النوم والقيام بأي شيء تريده، ثم تكون متيقظاً فقط في ذلك اليوم المحدد لأن السيد قادم فيه.

لكن السيد قال: "سوف أعود في أي لحظة..سواء في الليل أو النهار لا أعرف.. عليكم أن تبقوا مستعدين دائماً لاستقبالي".

هذه هي قصة الحياة ذاتها.. حكاية وآية.. لا يمكنك التأجيل.. في أي لحظة قد يأتي المقدس إليك.. في أي لحظة قد يظهر السيد داخلك... على المرء أن يبقى يقظاً دائماً.. لا يوجد يوم ولا موعد محدد سلفاً.. ولا تعرف شيئاً عن موعد ذلك الحدث الفجائي.

لا يمكنك إلا فعل شيء واحد: كن يقظاً وانتظر!

 

كتب طاغور قصيدة بعنوان "ملك الليل" وهي حكاية عميقة جداً..

كان هناك معبد عظيم وفيه مئة عابد مريد.. في أحد الأيام، حلمَ المعلم الكبير بأن الضيف المقدس سيأتي في الليل.. ذلك المقدس الذي كانوا دائماً ينتظرونه.. لقد كان ذلك المعبد وطوال قرون ينتظر قدوم الملك العظيم... إنه آلهة ذلك المعبد وهو سيأتي الليلة!

لكن المعلم كان في شك: "قد يكون هذا مجرد حلم.. وإذا كان حلماً سيضحك عليّ الجميع... لكن مَن يعلم؟ قد يكون حقيقة.. قد يكون إشارة حقيقية"... فكّر المعلم مليّاً ذلك الصبح حول إخبار الآخرين أم عدم إخبارهم... فأصبح خائفاً.

قد يكون آن الأوان!.. لذلك قام بعد الظهر بإخبار الجميع... جمع كل المريدين وقال لهم: "لا تخرجوا من المعبد ولا تخبروا أي شخص! قد يكون هذا مجرد حلم ولا أحد يعلم... لكنني حلمتُ بذلك والحلم كان حقيقياً جداً بالنسبة لي.. في الحلم، رأيت الإله ملك المعبد وقال لي: إنني قادم الليلة، فكن مستعداً... لذلك عليكم البقاء متيقظين.. لا يمكننا النوم هذه الليلة".

قاموا بتنظيف المعبد وتزيينه بكامله.. وقاموا بكل التحضيرات لاستقبال الضيف.. بعدها جلسوا ينتظرون.. لكنهم بدؤوا بالتدريج يشعرون ببعض الشكوك.

بعدها قال أحدهم: "هذه سخافة.. لقد كان مجرد حلم ونحن نخسر النوم هذه الليلة دون فائدة".

انقضى نصف الليل وظهرت شكوك أكثر.. تمرد شخص ثاني وقال: "إنني ذاهب للنوم.. هذه سخافة فعلاً.. أضعنا النهار بكامله ولا زلنا ننتظر.. ولن يأتي أحد!".. عندها دعمه أيضاً عدة أشخاص، ضحكوا قائلين: "هذا مجرد حلم ووهم، فلماذا نعطيه كل هذا الاهتمام؟!"

عندها حتى المعلم وافق وقال: "نعم قد يكون مجرد حلم عابر.. كيف قدرتُ أن أقول أنه كان حقيقي؟! نحن حمقى وأغبياء نلحق حلماً واهماً".

وهنا اتفق الجميع على أن يبقى شخص واحد فقط مستيقظاً وواقفاً عند الباب ويمكن أن ينام البقية.. إذا أتي الضيف، سيوقظنا الحارس.. وذهب 99 مريد إلى النوم.

قال المريد الحارس لنفسه: "إذا كان 99 شخص يعتقد أن ذلك مجرد حلم، فلماذا عليّ أنا أن أخسر نومي أيضاً؟ وإذا كان الضيف المقدس سيأتي، دعه يأتي.. سيأتي حتماً في عربة ملكية ضخمة وستصدر ضجة قوية ستوقظنا جميعاً". أغلق الأبواب وخلد للنوم...

 

بعدها أتت العربة.. وصنعت عجلاتها ضجة قوية فعلاً.. استيقظ أحد النائمين قليلاً وقال: "يبدو أن الملك قد أتى.. يبدو أن هذا صوت عجلات عربته الملكية".. أجابه نائم آخر: "لا تضع وقتك.. لا أحد سيأتي.. هذه ليست العربة.. بل مجرد أصوات الرعد والغيوم في السماء".

بعدها أتى الضيف وطرق على الباب... فقال أحد النائمين: "يبدو أن أحداً ما قد أتى وهو يطرق الباب"... عندها قال المعلم ذاته: "يكفي الآن.. نم بهدوء ودعنا ننام، ولا تزعجنا مجدداً.. لا أحد يطرق الباب.. هذا صوت الرياح".

في الصباح، كان الجميع يبكون بشدة لأن العربة جاءت فعلاً في الليل... كان هناك آثار لعجلاتها في الطريق، وآثار خطوات الضيف الذي صعد وطرق الباب.

 

هناك كثير من القصص في التاريخ وفي كل بلد.. لكن الفكرة الأساسية هي أن الاستنارة ممكنة في أي لحظة.. يمكن أن تحدث في أي زمان ومكان.. على المرء أن يكون يقظاً وواعياً.

هذه القصة عن "ملك الليل" ليست مجرد قصة.. إنها حقيقة الحياة.. نحن جميعاً نفسر الأشياء بتلك الطريقة، وكل تفسيراتنا هي تبريرات فكرية لتبرير نومنا وشخيرنا.. نحن نقول: "هذا صوت الرياح فحسب.. لا تهتم فهذا صوت الغيوم".. عندها نستطيع النوم براحة.

نستمرّ بإنكار الدين، نستمر بإنكار أي شيء يمكن أن يكسر نومنا التاريخي.. نبرر لأنفسنا أنه لا يوجد الله.. ولا يوجد دين ولا أي شيء له معنى في الحياة... لا شيء سوى الرياح والغيوم فلماذا الهموم؟ عندها يمكننا النوم بعمق وراحة.

إذا كان هناك الله، إذا كان هناك قداسة، إذا كان هناك إمكانية لشيء أعلى مما نحن عليه، عندها يستحيل أن ننام براحة أو هدوء.. عندها علينا البقاء بوعي ويقظة وصراع من بذل الجهد وجهاد النفس.. وعندها سيكون التحويل الداخلي هو أعظم اهتمام لنا.

 

الوعي هو تقنية لأجل تمركز النفس، لأجل تحقيق النار الداخلية..

إنها مخفية هناك ويمكن اكتشافها.. وحالما نكتشفها، عندها فقط سنقدر على دخول المعبد الحقيقي.. ليس قبل ذلك أبداً.

لكن يمكننا خداع أنفسنا بالصور والرموز..

الرموز موضوعة لتُرينا حقائق أعمق عن أنفسنا، لكن قد نستخدمها دون وعي كخدع ذاتية... يمكننا حرق البخور ويمكننا عبادة أفكار وأشياء خارجية، وعندها نشعر بالراحة لأننا قمنا بشيء ما! يمكن أن نشعر بأنفسنا أننا متديّنون دون أن نصبح متدينين على الإطلاق.. وهذا هو ما يحدث.

هكذا أصبحت الأرض.. كل مجموعة من البشر تعتقد نفسها متدينة لمجرد أنها تتبع طقوساً ورموزاً خارجية دون أي نار داخلية.

 

ابذل كل جهدك حتى لو فشلت.. ستفشل في البداية.. ستفشل مراراً وتكراراً.. لكن حتى فشلك سيساعدك.. عندما تفشل بأن تكون واعياً للحظة واحدة، ستشعر لأول مرة كم أنت غير واعي.

امشِ في الشارع، لا يمكنك المشي حتى بضعة خطوات دون أن تفقد الوعي تجاه نفسك.. مجدداً ومجدداً تنسى نفسك.. تبدأ تقرأ لافتة ما فتنسى نفسك.. تعبر امرأة جميلة فتنسى نفسك.

هذه الحالات من الفشل ستساعدك... ستُظهر لك كم أنت غير واعي..

وحتى إذا أصبحتَ واعياً لأنك غير واعي كثيراً، فقد حصلتَ على وعي معيّن..

إذا أصبح المجنون واعياً لأنه مجنون،

فقد بدأ يسير على طريق الشفاء وسلامة العقل.. أفلا تعقلون؟

 

أضيفت في:12-7-2016... زاويــة التـأمـــل> تأمل ساعة
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد