موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

الحقيقة الحقيقية هي فقط التي تختبر أنها حقيقية.. جزء1

إن إدراك الحقيقة ومعرفة الحق، معرفة الله أو الروح الأسمى ومَن نحن حقاً، ليس مناقشةً فكرية أو تحليلاً منطقي عقلي... بل فقط أولئك الأفراد الذين يغذّون قيمة أنفسهم ومقدرتهم على الاستقبال بتدريب متواصل، يقدرون على إدراك الحقيقة.

بما أن معرفتنا للأشياء محصورة بحدود قدرتنا على المعرفة، فمن الضروري تذكّر أن ومضات الحقيقة وقفزاتها ليست محصورة بحدود معرفتنا.

حدود الحقيقة هي دوماً أبعد من مجال النظر والفكر، لأنه كلما عرفنا أكثر كلما وجدنا أن هناك أكثر بكثير لكي نعرفه... ما نعرفه ليس بالضرورة أن يكون حقيقة، نظراً لأن الحقيقة كبيرة جداً على قدرتنا الإدراكية، وهذه القدرة ليست مثالية ولا كاملة.

 

الشخص الذي يقيّد حدود الحقيقة بحدود معرفته يتوقف عندها ولا يذهب أبعد منها... حتى في حالة الأشياء الدنيوية نجد أن معرفتنا مقيدة بأعضاء الحواس... بالنسبة للشخص المحروم من النظر، لا يوجد حقاً شيء مثل النور في عالم اختباره.. المفهوم الحقيقي للنور لا يمكن أن يلاقي مكاناً له في مجتمعٍ مكوّن من العميان.. ولا حتى العتمة يمكن أن يفهموها حقاً، لأن اختبار النور هو شيء أساسي للفهم العميق للعتمة.

إذا فقدنا حاسة السمع، سيصبح الصوت غير موجود بالنسبة لنا..

افتراضياً، لا يمكن لأشياءٍ أن تبوح لنا بوجودها إلا تلك الأشياء الواضحة لحواسنا.. عالم اختبارنا يمتدّ بالتساوي مع قدرتنا الإدراكية.

لكن لا يمكننا رغم ذلك، قول أن العالم الحقيقي هو فقط مقدار ذلك..

حدود العالم الذي نختبره وحدود العالم الحقيقي ليست متطابقة.. هكذا يكون عالمنا محصوراً ومقيداً بواسطتنا نحن... بالتأكيد هناك عدة عوالم ضمن عالم واحد.. وهناك كثير من العوالم بعدد ما هناك من كائنات حية.

 

بالتفحّص بدقة أكبر، يمكننا قول أن هناك عدداً من العوالم يساوي عدد الأفراد المكونة لكل الأنواع الحية.. هكذا نجد في الكون عدداً غير منتهي من العوالم الفردية، لأن أولئك الذين يعرفون ويُدركون ويختبرون هم أيضاً عددهم غير منتهي... لذلك، نجد الكون مقسوماً إلى عدد هائل من القطع الجزئية الخيالية بعدد ما هناك من كائنات حية.

بعيداً وراء الإنسان، هناك عدد كبير من الحيوانات التي أعضاء حواسها أقل تطوراً من الإنسان.. عديدٌ منها لا يمتلك حاسة البصر أو السمع.. بعضها لا يمتلك حاسة التذوق أو الشم.. تلك الكائنات ليس عندها فعلاً اختبار النور، الصوت، الطعم أو الرائحة.

 

عالم اختبار الإنسان يمتد بمقدار ما تسمح له أعضاء حواسه، وسيكون جهلاً كبيراً إذا انحصر العالم الحقيقي بواسطتنا وحسب ما تُسقطه معرفتنا المحدودة عليه.

لو أن حواساً أكثر أُعطيت لنا، كنا سنمدد عالم اختبارنا أكثر أيضاً.. الأجهزة العلمية الحديثة مكنتنا من ذلك... أذكر هذا فقط لأشدد على أن معرفتنا متناسبة مع قدرتنا على التعرّف، ومع قدرات حواسنا على الالتقاط والفهم...

الشيء الحقيقي في العالم المرئي هو حقيقي أيضاً في الوجود غير المرئي... عندما يسأل الناس: "هل الله موجود؟"... "هل الروح موجودة؟"... يلزم إجابتهم بسؤال مقابل: "هل تمتلكون المقدرة على اختبار الروح أو الله؟؟".. السؤال الحقيقي هو عن المقدرة وليس عن وجود أو عدم وجود الله.. إذا كان عندك المقدرة ستختبر بالتأكيد تلك الحقائق التي هي أبعد من حدودك الحالية، وفي غياب تلك المقدرة، تلك الحقائق ستبدو حتماً غير حقيقية.

إذا أجبَرنا خوفُ غامض معيّن على قبول حقائق، لا يمكن أن تكون حقائق حقيقية، لأن الحقيقة الحقيقية هي فقط التي تختبر أنها حقيقية.

 

في أحد الأيام، جاء باحثٌ عن الحقيقة إلى أحد الحكماء العارفين يطلب توجيهه.. سأله: "كيف تتخيل الحقيقة؟ كيف ترى الله؟ ما هو مفهومك عنه؟"

أجابه الحكيم: "الشيء الذي أدركته أنا قد لا يساعدك كثيراً، نظراً لأنك لا تمتلك عيوناً قادرة كفاية على تخيل ورؤية الحقيقة.. كل ما قد أقوله لك، سيؤخذ أنه غير حقيقي لأنك لا تستطيع إدراك حقيقة الشيء الذي لا تستطيع اختباره... سأروي لك قصة حدثت معي.

مرةً زرتُ إحدى القرى، حيث جلبوا لي رجلاً أعمى وطلبوا مني إقناعه بوجود النور... قلتُ لهم هذا جنون تماماً، لأن الرجل لا يمتلك أداة الرؤية.. من الأفضل أخذه إلى طبيب يعالج عيونه.. عندما يكون هناك عيون تقدر أن ترى، سيكون هناك نور".

هذه هي قصتنا جميعاً... اهتمامك وبحثك يجب ألا يكون عن الحقيقة، بل عن امتلاكك العيون القادرة كفاية على الرؤية أبعد من حدود الأشياء.

 

كل ما نراه ليس إلا المادة، وكل ما يوجد هناك جانبها ووراء حدودها، يقع خارج مجال اختبارنا.. نبضاته الحساسة خفيفة الروح وأمواج تفاعلاته تفشل بترك أي أثر علينا.. عندما تقابل صديقك، تواصلك معه محدود فقط بكيانه المادي.. لا تقترب أو تلمس شيئاً من روحه.

عندما ترى شجرة في الحديقة، ستقف عند الحدود الخارجية من وجودها المادي، ليس لديك أي قدرة للوصول إلى روحها الداخلية.. لماذا؟ لأن الشخص الذي لم يحصل على اتصالٍ عميق مع روحه، ولم يحصل على اختبارٍ للطاقة الواعية داخله، لا يقدر حتى أن يأمل بإدراك الكيان الواعي الموجود في كل مكان وزمان.

لذلك، السؤال لا يدور حول الله، الحقيقة، أو النور.. بل عن الرؤية.

كل الطرق الدينية والروحية ومبادئ الكون ليست إلا وسيلة علاجية.. وليست موضوعاً للتفكير والتفسير والتشاور.

 

ستظهر عدة اختبارات طازجة داخلنا إذا تمّ إيقاظ النبضات النائمة ودَفعها حتى تصبح نشيطة فاعلة، فتترك تحت تصرفنا معرفةَ تلك الأشياء التي مِن دونها لا يوجد هدف ولا غاية ولا معنى في الحياة... المادة تتراجع إلى الخلفية مع نموّ حساسيتنا المرهفة وزيادة استقبالنا وتعمّقه.

يتم الوصول إلى نقطة يتوقف فيها كل الكون عن الظهور كشيء مجسم أمام الإدراك، ولا يبق إلا الرؤية الصافية النقية لله أو الروح الأسمى.

لأجل تحقيق ذلك، علينا تحضير أنفسنا... المزارع يجهز التربة قبل زرع البذور.

الأشخاص الباحثون عن إدراك الأسمى، عليهم المحافظة على الأرض جاهزة وعلى أنفسهم متناغمة لسماع تلك الموسيقى المقدسة الموجودة في كل مكان.

الشمس مرئية لأن عيوننا تدرك وجودها.. الشمس تقدر أن تترك أثرها علينا لأننا نمتلك كلا الشيئين: عضو الرؤية الواضح، والقدرة الإدراكية الكافية.

أنا أكتب الآن وأنت تقرأ ويصل الكلام إلى فكرك وإلى قلبك، منتجاً صدى وتجاوباً، لأن لديك أعضاء حواس تمكّن الكلام من الوصول إليك..

الروح الأسمى لا تتوقف عن الوجود حتى للحظة واحدة.... أنفاسنا كلها أنفاسه، نبضاتنا كلها نبضاته، وحدودنا هي حدوده، لكننا لا ندرك ذلك لأن أيدينا تُبقي معبر دخوله مغلقاً.

 

ثلاثة مفاتيح حيوية جوهرية

هناك ثلاث مراحل في عملية المحافظة على هذا المعبر مفتوحاً دوماً، إنها ثلاثة مفاتيح، ثلاث صِلات وما الصلاة إلا صِلة، توصلك إلى الاتحاد مع الروح الأسمى الواحدة الأحد... سنبدأ بالكلام عنهم وسأخبرك كيف يمكن لتلك الطاقة التفاعلية المرهفة أن تتولد داخلك، بينما يذوب الجامد ويظهر الخفيّ أمامه... الأشياء المجرّبة المعروفة تختفي، والروح الأسمى تصبح مرئية... المفاتيح التي سنشرحها ستأخذك من المرئي إلى الخفي، من الجامد إلى المرهف، من الأشياء الدنيوية إلى الروح الأسمى.

 

المفتاح الأول: محبّة النفس

الحلقة الأولى من سلسلة الوصل هي محبة النفس... دعونا نحب أنفسنا.. دع هذا الحب يتدفق دون قيود أو شروط.

الشخص الغير قادر على محبة نفسه لا يقدر على حب الآخرين.. وفي غياب الحب من المستحيل الذهاب أبعد من المستوى الدنيوي الفيزيائي المادي والمؤقت... قوة الحب عند الإنسان هي القوة الوحيدة الروحية وغير الأرضية.

الدرجات التي نصعد عليها لنصل إلى حضور الروح الأسمى، لا يمكن الصعود عليها إلا عبر وصلة الحب غير الأرضية.

يلزم هنا التنبيه والاحتياط... بالتأكيد ستختبر بعض الصعوبة مع سماعك هذه الدعوة إلى حب النفس، لأن ما يُدعى تقاليد دينية وروحية تسير ضد ذلك.. كل الأوامر والمعتقدات والعقائد تسير بشكل مباشر أو غير مباشر بشكل معادي للنفس.. هل من الممكن كبت النفس دون كرهها ومعاداتها؟

برج الفضيلة والاستقامة والصلاح بناه الإنسان على أساس من الخلاف والصراع بين أزواج المتناقضات المتعاكسة التي تمّ تقسيم النفس إليها...

لا داعي للمفاجأة إذا تحوّلت الحياة المبنية على وهم إلى حياة جافة بشعة وغير ملهمة... جمال الحياة لا يمكن أبداً أن يُثمر خلال عملية كره النفس والصراع معها، لأن الفرد الذي يتصارع مع نفسه يفقد طاقته والقوى الداعمة له التي كانت بالأصل ستضمن نجاحه في الحياة.. يقوم الفرد بنفسه بجعل يديه تقاتل بعضها.. فمَن سيهزم مَن؟ لا الانتصار ممكن ولا الهزيمة ممكنة.

الممكن عندها فقط صراع متبادل يقود إلى ولادة فرد مسلوب القوة تماماً، ويقود للموت في النهاية... بهذه الطريقة، وبما أن كل أجزاء كيان الفرد تتقاتل وتتآمر على بعضها لجلب تدمير النفس، ستصبح الحياة بشعة ومضجرة وعقيمة.

الجمال والحقيقة والبركة يمكن تحقيقها فقط إذا ملأنا الحياة بالتنمية المبدعة للنفس.

الكتب والأحاديث المقدسة عن كبت النفس لا يمكنها صنع نغمات التناغم داخلنا من ناحية، ومن ناحية ثانية، تولّد الضجيج والانفصال وتقود للبؤس والقلق والإحباط.

الشخص المملوء بالصراعات المتبادلة، الذي يبدأ بقتال نفسه، الذي يقسم نفسه إلى صديق وعدو، الذي يعتبر بعض أجزائه أعداءه ويضع أجزاءً أخرى في مواجهتها، هو في الحقيقة يصنع جهنماً لنفسه.

الشيء الذي يدعو للأسف، هو أننا كنا نعتبر هكذا حياة من الصراع حياةً من الاستقامة والتقوى والطهارة!

في الحقيقة، الحياة الطاهرة هي شيء مختلف تماماً.. ليست حياةً من الصراع الداخلي، بل حياةً من التناغم والموسيقى والسلام الداخلي.. ليست حياة من "معاداة النفس".. بل حياة من الوحدة والتكامل والانسجام.

على مَن يرغب بالحصول على هذا التناغم في الروح، أن يضع أساساتها الصحيحة منذ البداية... الذي يبدأ بصراع لا يمكنه حتى أن يحلم بالوصول إلى حالة من السعادة دون صراع، لأن النهاية موجودة مسبقاً في البداية ذاتها.

تذكروا إذن أن المرحلة الأولى أهم بكثير من المرحلة الأخيرة.

الروح الأسمى هي تناغم تام، هي التمام والاكتمال ذاته... إذا رغبتُ بالاندماج مع ذلك التناغم المقدس، من الأساسي أن أمتلك نغمات موسيقية متناغمة داخلي.. كيف يمكن إنتاج نغمات التناغم؟ ليس أبداً بمعاملة النفس باحتقار وليس بلوم النفس ولا بعدائية النفس... بل بمحبة النفس.

 

محبة النفس مقابل كبت النفس:

إن الأساسات الأولى لحياةٍ تسير في رحلة روحية تكمن في محبة النفس والتناغم الروحي... بالتأكيد سترتبك مع سماعك لهذا، لأنهم نصحوك كثيراً بكبت شيء ما داخلك.. لكن أقول لك لا يوجد أي شيء داخلك يحتاج للكبت أو الاقتلاع.. هناك دوافع محددة في كل إنسان تحتاج للتسخير والاستعمال لا للاقتلاع، قوى محددة تحتاج أن نوقظها ونحبها لا أن نكبتها.. يجب أن نتحكم بها ونضعها في الاتجاه والمسار المناسب.. لكن الناس الذين يعتبرونها عدواً لهم لن ينجحوا أبداً في تحويلها.

الإنسان الذي يفهم يستطيع تحويل حتى السم إلى رحيق، لكن مَن ليس عنده فهم لا بدّ أن يحول رحيقه إلى سم... الفهم هو الرحيق، ونقص الفهم هو السم.

نحن نشاهد كيف تحصل تنقية الأشياء، مثل الأشياء التي تطلق روائح بشعة كالفضلات التي تستخدم كأسمدة طبيعية.. كلما شاهدتَ زهرة واستمتعت بعطرها وتحرك قلبك، تذكر مصدر ذلك العطر.

الرائحة البشعة لروث البقر قد تم تحويلها إلى شذى ساحر عندما انتقلت عبر البذور والأغصان... إذا قمتَ فقط بتكديس جبل من الروث في حديقة بيتك، ستملأ الرائحة البشعة كل البيت... لكنك إذا نشرت الروث على كامل تربة الحديقة سيتحلل ويتحول إلى أزهار وعطور... الشيء الذي تدعوه "رائحة بشعة" ليس إلا شكلاً غير متطور من "رائحة العطر" وليس عدواً مضاداً لها... نغمة الموسيقى النشاذ ليست إلا شكلاً غير متطور وغير مرتب من النغمات المتناغمة التي تندمج جيداً معاً في الموسيقى المثالية.

 

لا يوجد أي شيء في حياة الإنسان يستحق تدميره أو إبادته..

لكن بالتأكيد، هناك الكثير في حياة الإنسان الذي يحتاج للتحويل والتصعيد..

الإنسان يمتلك طاقات محددة وهي بالأساس حيادية في الجوهر، ليست جيدة ولا سيئة، ليست محمودة ولا مشؤومة، إنها حيادية... تأخذ القالب الذي تضعها وتستعملها فيه... الشيء الذي ندعوه الطاقة الجنسية، قوة الهوى والشهوة العارمة التي خاض ضدها من يُسمّون "قادة دينيون وروحيون" حرباً غير منتهية، ليست إلا طاقة كامنة حيادية، لأن تلك الطاقة عندما تحوّل، تطوّر نفسها إلى قوة وطاقة مقدسة.. إنها الطاقة الخلاقة الأولى البدائية، والأشياء القادرة على تحقيقها تعتمد على طريقة استعمالك لها.. طبيعة تلك الطاقة لا تعتمد على نفسها فقط، بل على فهمنا لها وعلى فن عيش حياتنا.

تلك الطاقة بالذات، عندما تتحول، تصبح طاقة العزوبية الحقيقية غير المفروضة من الخارج بالكبت والجهل... هذه العزوبية ليست عدائية مضادة لقوة الشهوة بل هي تحويل لطيف لها... بنفس الطريقة، تتحول الطاقة المتجسدة في الغضب إلى رحمة سلام هدوء وسكينة.. الموضوع هو فقط التحويل.. في حياتنا، عملية الخلق تمتلك أهمية أعظم من عملية التدمير.

إذا تم فهم هذه الحقيقة بوضوح، لن تظهر أبداً مسألة الصراع أو العدائية مع النفس، ذلك لأن خلق النفس ممكن فقط في جوٍّ من محبة النفس.. وأضيف أن جسدنا المادي يجب ألا يُستثنى من النفس.

 

لجسدك عليك حق.. فلا تتجنبه:

أعطِ جسدك محبة وافرة بحيث عندما يحصل عليها يصبح حياً نابضاً متوهجاً... ويتم إيقاظ طاقاته الكامنة النائمة.. لكن تذكر، لا "المنغمس" في الشهوات ولا "المتقشف" عن الشهوات يحب الجسد محبة حقيقية.

احتقار المنغمس الملحد لجسده يتمثل في فقدانه تماماً للكبح الذاتي لنفسه.. وبسبب هذا الاحتقار يميل إلى هدر جسده.

المتقشف أيضاً يرتدّ من الجهة المتطرفة الأخرى، وكذلك يعادي جسده بنفس الدرجة.. طبعاً الاتجاهات التي يأخذونها قد تختلف.. المتقشف يعذب ويشوّه الجسد باسم كبح النفس وشهواتها، أو باسم العزوبية الكاذبة، أو الاستغناء عن الدنيا أو التقرّب من الله... والمنغمس يفعل نفس الشيء باسم التحرر الواهم والإباحية والانفلات من كل القيم.. لكن كلاهما فاقد لمحبة الجسد والامتنان له.

الصفات المميزة للشخص المتوازن عقلياً تتجلى في نظرة ودّية ومُحبة للجسد.. تعذيب الجسد بأية طريقة كانت تدل على عقلية معتلة مريضة.

هكذا نرى أنه يمكن أن نتعذب بنوعين من العيوب العقلية: أحدها هو المتعة غير المُقيَّدة والآخر هو الإنكار دون تفكير... لذلك يصل المنغمس إلى لحظة الانقلاب على الأعقاب فيُنكر ويتقشف، والعكس يحدث أيضاً.. كم يتمنى المرء أن يستطيع الوقوف في الوسط على الميزان!

لكن لسوء الحظ، من السهل جداً الانتقال من مرض إلى آخر.. والمرضى بهذا المرض علمونا الكثير عبر التاريخ: علمونا أن الجسد هو عدونا وعلينا أن نتقاتل معه... كنتيجة لهذه التعاليم السامة المُهلكة، أصبح الدين والتقوى والصلاح الأخلاقي كله مهووس جداً بالجسد... معاداة الجسد هي حتماً انشغال وتركيز على الجسد.. لذلك أقول لك، إذا أردتَ الذهاب أبعد من الجسد والصعود أعلى منه، فلا تتقاتل معه ولا تحمل أي معاداة له.. أحب جسدك واسعَ لصداقته.. الجسد ليس عدواً لنا.

الجسد مجرد أداة جاهزة للاستعمال في خدمتك.. من الواجب عليك مدّ يدك لصداقة الشيء الذي تستعمله.. قبل أي شيء آخر في حياتك، من الضروري مد يد الصداقة إلى جسدك الذي هو تحفة فنية بارعة صنعها الله وسكن فيها.. جسدك هو سلم مليء بالأسرار ويقودك إلى الروح الأسمى... الشخص الذي يتصارع مع السلم بدل الصعود على درجاته مجنون تماماً.. وللأسف نحن محاطون بكثير من الأشخاص الفوضويين الذين لا يمكن إصلاح جهلهم، فانتبه منهم.. من الصعب تقدير كمية الدمار التي صنعها وجود أولئك المجانين بيننا.

أنت لا تدرك تماماً ألوف الأسرار الكامنة طبيعياً في الجسد وكلها معطاة لك وتنتظرك... وحتى لو تعلم الشخص كل أسرار جسده، سيحصل على مفتاح إلى أسرار الروح الأسمى اللامتناهية.

 

كم هو صغير هذا الجسد،

لكن كم هي مدهشة وكثيرة الأسرار الكامنة والمخفية فيه!

العقل مخفيّ في الجسد..

الروح مخفية في العقل..

والروح الأسمى مخفية في الروح..

 

كان رجل حكيم على وشك الموت.. قام بتوديع تلاميذه وأصدقائه.. شكرهم جميعاً ثم وقف ضاماً يديه بامتنان وقال: "آه يا جسدي الحبيب! أنت مَن أوصلني إلى الله.. أشكرك جداً على ذلك.. لم أقدر على فعل شيء لأجلك.. بل بالعكس، عرّضتك لكمية هائلة من الألم والمعاناة.. لقد استخرجتُ طاقة للعمل منك دون دفع أي مقابل لك... أنا مدينٌ لك بالكثير لأنك لأعطيتني مساعدة غير محدودة.. في ساعة الوداع هذه أطلب منك الصفح والسماح.. اعذرني على كل الإهمال والفوضى.. من دونك كان مستحيلاً بالنسبة لي أن أصل إلى الله!"

عليك أن ترى الجسد بهذه الطريقة... هذا الموقف من الامتنان، هذا الحب الدافئ شيء أساسي.. قال الحكيم: "آه يا جسدي الحبيب!".. كم يحب جسده حتى في آخر لحظات حياته... ألا يمكن لك أنت أيضاً أن تشعر بالتعاطف والفَهم وتضيء حياتك مثله؟ اسمح لي أن أسألك: هل نظرتَ يوماً إلى جسدك بنظرة حب متعاطف مثلها؟ هل شعرتَ يوماً أنك مباركٌ بهذا الجسد الخادم لك ليل نهار؟ هل عبّرتَ يوماً عن امتنانك له؟ إذا كان جوابك هو لا.. كم أنت ناكر للجميل!! كم أنت فظ وسلوكك معه غير لائق! ما هذه الجريمة!؟

موقفك تجاه الجسد يجب أن يكون موقفاً من التفهم والتعاطف العميق... على الشخص امتلاك المعرفة الكافية لحمايته ولرؤيته كصديق... الجسد هو رفيقنا في هذه الرحلة الطويلة من صعود الجبال، يشاركنا أفراحنا وأتراحنا.. الجسد هو أداة ووسيلة وسلّم.. لذلك أرى أن أي شخص يحمل ذرةً من حس البديهة لا يمكن أن يكره أو يقاتل جسده.

لكن بسبب الجهل لسوء الحظ، كان ولا يزال هناك في العالم كثيرٌ من الناس الحاملين لنظرةٍ منحرفة مشوهة، أناس متكبرون عنيفون كابتون ومجرمون تجاه جسدهم لدرجة تجعلنا نأسف ونأسى وبالنهاية نصلي لله: "آه يا الله! أنقذ البشرية من مثل هذه الأديان والروحانية الغبية!".. أعمالهم السيئة وأفكارهم الجافة الجدية تجاه جسدهم لا تُثبت إلا فقدان كامل الذكاء عندهم... ولا يوجد أمل!

التأثير السيء لمثل أولئك الأشخاص لا يزال موجوداً ويصل إلينا حتى اليوم.. دعونا نُبقي أنفسنا بعيدين عن تلك المواعظ الممرضة.. أمثال هؤلاء من الواعظين والمبشرين ورجال الدين لا يستحقون احترامنا، بل يستحقون علاجاً يشفيهم.. وآمل كثيراً أن نقدر على علاجهم.

هذه العدائية تجاه الجسد المادي، ليست إلا ردة فعل ضد الضعف والفشل والإحباط الناتج عن المتعة الحسية غير المنظمة... هكذا تمّ لوم الجسد المادي البريء بتُهمة خطايا النفس ذاتها.

أرجو منك أن تكون يقظاً تجاه إنكارات الذات المُعذّبة المبنيّة على عدائية الجسد المادي.. أي نكران اهتمامات وحاجات المرء والتضحية بالذات الناتجة عن عداء الجسد.

 

مع رؤيتنا حقيقة أنك كنتَ دوماً تصنع الدمار لجسدك، من الطبيعي أنك قد تشعر بالإغراء والانجذاب إلى كل أشكال تنظيم وتدريب النفس...

إذا كان المرء عندما يرى ثروة هائلة يمتلكها شخص ما، يصبح طماعاً... أو عندما يرى جمال شخصٍ ما يصبح مفتوناً مسحوراً... فهو في العادة لا يقوم باقتلاع عيونه.. إذا قام شخصٌ بذلك سأدعوه مجنوناً طائشاً، لأن العيون لا تطلب منك أبداً أن تكون طماعاً، ولا تريد منك أن تتحمس أو تشتهي... العيون لا تأمرك بفعل أي شيء من أي نوع.. بل هي جاهزة دوماً لإخراج ذاتك وميولك بالطريقة التي تعتبرها أنت ملائمة لاستعمالها... الجسد المادي هو خادم، وهو تابع لك طوال الوقت.. أينما أردتَ أخذه سيأتي معك... إذا قلتَ له: "اذهب إلى جهنم" فهو مستعد للذهاب إليها.. وإذا قلت له: "اذهب إلى الجنة" ستجده أيضاً مستعداً للذهاب.

السؤال إذن لا يدور حول الجسد المادي، بل عن اختيارك وإرادتك.

لا تنسَ أبداً أن الجسد يلحق ويتبع الإرادة والنوايا.. سنرتكب خطأً فادحاً إذا قُمنا بتعذيب الجسد وجعله ضحية أو حتى تدميره بدلاً من تغيير الإرادة.

تعريض الجسد للمضايقة والمعاناة هو شكل آخر للعنف، ولا أوافق على أي عنف تجاه النفس ولا تجاه الجسد..

 

أدعوك إلى محبة النفس... وأرى أن قمة الحماقة هي العنف ضد النفس.. لكن ما أدعوه محبة النفس ليس له أي علاقة بالشخصية المرتكزة على الأنا.. الشخص المهووس بالأنا والاستكبار لا يحب نفسه أبداً، لأنه لو أحب نفسه لصار خالياً من الغرور، فلا شيء أكثر وحشية وشراً وكآبة من الغرور.. الشخص المهووس بالأنا هو الذي ينغمس في أفعال العنف ضد النفس، مرتدياً ثياب رجل مقدس، لأن الأنا لا تحصل على هكذا تغذية وإشباع إلا بهذه الطريقة.

لذلك هناك نوع من الغطرسة أو العجرفة يظهر عند مَن يُدعون زاهدين متقشفين وحكماء مزيفين بالريش متزينين... إنهم مغرورون لأنهم قديسون، وإنهم قديسون لأنهم مغرورون.

 

تجنّب العدائية:

في هذا الكون الشاسع الذي خلقه الله، لا يمكن أن يوجد أي شيء عدائي أو غير ودود تجاهك... لكن بالطبع، ذلك موضوع آخر إذا لم تستفد منه أو أسأت استعماله.

الإنسان الذكي والمتفهم يحوّل الحجر أمامه إلى درجة يصعد عليها، بينما الإنسان الخالي من حس البديهة والفطنة، يحوّل حتى الدرجة إلى حجر عثرة في طريقه! في الحياة، الذي يصنع الفرق المهم هو طريقة نظرتك للأشياء... إذا كان نظرك مشوشاً سيصنع فرقاً هائلاً في واقعك.. لا حاجة لأن نفاجأ إذا أصبح الجسد المادي في النهاية عدائياً تجاه الشخص الذي كان يعتبره عدائياً منذ البداية.

دعونا ننظف فكرنا ونبدأ من فكرة أن الجسد صديقٌ لنا... عندها سيبقى صديقاً للأبد... إذا اختفت العدائية والحقد، سينزاح عبء ثقيل عن النفس، ونتحرر من توتر كبير، فنختبر السكينة والسلام... دعونا نختبر ذلك.. دعونا نتذكر أن الجسد مجرد وسيط، لا يأخذ أي أحد إلى أي مكان.. لنمسح أي إرادة أو نظرة مريضة تجاه الجسد.

إذا نظرنا إلى الجسد دون أي تحيّز، سيمتلئ قلبنا طبيعياً بالحب والشكر تجاه الخدمة الصامتة التي يقدمها لنا... مجدداً، ليس علينا التوقف عن الجسد.. علينا الذهاب أبعد وأعمق.. الجسد المادي هو فقط نقطة البداية من رحلتنا في الحب باتجاه النفس.

 

 

أحب الفكر:

عندما نذهب بعمق أكبر، نشاهد الفكر.. علينا أن نحبه أيضاً ونسعى لصداقته.. بالعادة نكون مُدركين فقط لهاتين الطبقتين من النفس عند الفرد: الجسد والفكر... إذا أردنا الذهاب أعلى منها أو أبعد منها، فعلينا استعمالها.

الحملة ضد الفكر، دون أي شك، تم خوضها بشدة أكبر من الحملة ضد الجسد.. هذا كان الهدف المركزي للهجوم من قبل القادة الدينيين أو الروحيين.. من الضروري تحرير أنفسنا من هذه العدائية.

الفكر هو طاقة، ومثل كل الطاقات هو أيضاً طاقة مقدسة.. طاقة مرهفة متطورة جداً... لومه والعدائية تجاهه أو سوء استعماله هو غباء مطلق يحمل عواقباً قاتلة.

لم يقدر الإنسان إلى اليوم أن يعرف أو يألف تماماً كل أسرار الفكر، ولا يعرف كيف يستعمل طاقته الفكرية... الفكر الآن حاله مثل حال الكهرباء.

في زمانٍ مضى، كانت الكهرباء عامل تدمير فحسب... لكن اليوم صرنا نستعملها في ملايين المشاريع المبدعة.. فهم الإنسان لكامل طاقاته الفكرية سيقود إلى أعظم اللحظات المبدعة في تاريخ البشرية.

الفكر هو مستقبِل لعدد لا يُحصى من الإمكانيات.. أولئك المُعاديين له سيصطدمون بهذه الإمكانيات ويسيرون بأيديهم إلى الهلاك.

يقول البعض أنهم يلومون ويناقضون الفكر بسبب تقلبه الكثير وعدم ثباته... لكن عدم الثبات هو علامة الحياة..

أولئك الخائفون من الحياة والذين ينتظرون الموت بفارغ الصبر، يرحّبون بالخمول، نظراً لأنهم يرون السلام والسكينة فيه.. لكن دعني أخبرك أن السلام الناتج عن الخمول ليس حقيقياً... خمول الفكر هو تدمير ذاتي.

ما يبدو سلاماً هناك ليس إلا عزلة وصمتاً مثل القبور.. بالتأكيد ضجيج الحياة أفضل بكثير من صمت القبور.

الشيء الجدير بالجهد وبالاهتمام، ليس الصمت المفروض بكبت الفكر، بل الصمت الذي يطور نفسه بفهم عميق للفكر.. فقط مثل هذا السلام يمكن أن يقودنا إلى قمم أعلى.. الهدوء الميت يقود إلى المادة، إلى الشيء الجامد الدنيوي وليس إلى الله... من الأساسي امتلاك هدوء حيّ، رباطة جأش وصمتٌ فاعل.. فقط الشيء الحي يمكن أن يصبح معبراً يوصلنا إلى الحياة الأسمى.. لذلك لا أدعوك إلى كبت الفكر أو بذل أي جهد لقمع تقلبه طمعاً بالسلام.. لا تقع أبداً في مثل هذا المستنقع من الغباء والجمود.. هناك سلفاً ما يكفي من الخمول في العالم ويمكنك تجنب زيادته أكثر.

أريد فكراً حياً وهادئاً في سلام في نفس الوقت... فقط ذلك السلام الذي تحصل عليه دون فقدان تقلب الفكر هو السلام الحي النابض المتدفق...

سكون المستنقع عقيم، بينما سلام النهر المتدفق دائماً إلى أبعاد المحيطات هو السلام الذي يستحق الحق... إذا أمكنك ذلك ستقدر أن تصل إلى الله أو الروح الأسمى.

لذلك لا تستغرب أو تحزن إذا كان فكرك غير ثابت.. لا تلمه مطلقاً، لا تعتبره عدواً لك.. بل كن شاكراً له لأنك لولاه لكنتَ مستنقعاً ميتاً من زمان.

لو أن الفكر لم يكن متقلباً، لكنتَ أخذتَ مقعداً فوق كومة من النفايات المغلفة بشيء اسمه التركيز...

لو أن الفكر لم يكن متقلباً، لكان الطماعُ يجول حول هدف طمعه للأبد، والمخدوع حول ما خدعه، والشهواني حول ما تشتهي حواسه.. وعندها ينغلق طريق الله إلى الأبد.

 

لأن الفكر قلق ومتقلب، يتم دوماً إزالة الآلهة المزيفة ومتابعة الطريق...

لأن الفكر غير ثابت، فهو لا يسمح لنا بأن نجمد ونهمد،

بل يدفعنا للسير باستمرار..

 

سأخبرك سراً عظيماً غامضاً وراء هذا التقلب للفكر:

"ما لم وإلى أن يجد مكان الراحة النهائي الملائم له، فلن يسمح لك الفكر أبداً بأخذ أي قسط من الراحة والسلام..

لذلك، الفكر دوماً متقلب.. الفكر يجد ملاذه وجنته فقط في الله حيث هناك يرمي تقلبه، لكن أبداً ليس قبل ذلك..

تذكر هذا دوماً: فكرك هو شيء لطيف ويحب الخير لك... وإلا لعلقتَ في شيء دنيوي ما وتوقف سعيك لله إلى الأبد".

 

لذلك لا تقم بلوم وإساءة استعمال فكرك بسبب عدم ثباته.. اقبل تقلبه وافهم أن هذا نعمة عليك واستعملها.. تذكر أن الفكر إذا فشل في أن يكون ثابتاً ومستقراً فالسبب هو خطأ ما من جانبك، فعلٌ خاطئ ما أنت المسؤول عنه.. لذلك تجد الفكر لا يرغب بالبقاء هناك.

تقوم ببذل كل جهدك للتركيز، لكن فكرك لا يركز.. بالتأكيد هذا خطؤك أنت..

الفكر بتقلّبه يحذرك وينبّهك، لكن لسوء الحظ بدل فهم الإشارة، تعتبر الفكر عدواً لك!

 

في أحد الأيام، عندما كانت مصر محكومة بملك قوي عظيم، كان هناك حكيم كبير يحترمه الكل حتى الملك، ويعيش في قرية مصرية صغيرة.

ذهب الملك ودون أي خبر مسبق إلى زيارة تلك القرية.. وأراد دعوة الحكيم إلى قصره... لكن الحكيم يومها كان قد خرج من كوخه عندما وصل الملك إليه.

تلميذ الحكيم الشاب لم يعرف أن هذا هو الملك بسبب ثيابه العادية.. فطلب من الزائر أن يجلس على طرف المزرعة وقال أنه سيذهب إلى القرية لجلب معلمه.

لم يرفض الملك الجلوس فحسب، بل بدأ أيضاً يسير ذهاباً وإياباً في المزرعة.. مع رؤية هذا، طلب منه التلميذ أن يذهب ويجلس تحت شجرة وارفة الظلال.. ذهب الملك لكنه لا يزال لا يريد الجلوس وبقي يتمشى تحت الشجرة وحولها... شغل هذا تفكير التلميذ.. فطلب من الزائر الدخول إلى الكوخ والجلوس فيه.. رغم ذلك لم يصغ إليه.. بقي يصول ويجول داخل الكوخ! ..ذهب التلميذ محتاراً لإيجاد معلمه.. عندما سمع المعلم قصة الزائر الغريبة قال: "يا ابني، هذا هو الملك.. لا يوجد مكان داخل أو حول كوخنا يلائم مكانته الاجتماعية حتى يقدر أن يجلس فيه.. لذلك كان يسير دائماً".

أقول لك أن الفكر أيضاً يسير ويتقلب لنفس السبب.. إنه لا يجد مكاناً مستحقاً لكي يجلس فيه للأبد... وواجبنا هو البحث عن عرش يلائم مقامه وكرامته.. بدلاً من ذلك، تستعد دوماً للقتال مع تقلب الفكر! هل تعتقد أن تلك الأماكن هي مناسبة فعلاً لفكرك؟ هل تقدر حقاً أن تتوقع منه الجلوس في أحدها؟ يا أصدقائي، نعمةٌ كبيييرة وفضل إلهي أن الفكر شيء متقلب.

قد تستمر بتحديد أماكن مختلفة وتطلب منه مُلتمساً: "اجلس هنا رجاءً" لكنه لن يجلس... الفكر لا يقدر ولن يجلس في أي مكان آخر سوى الله، تلك هي مكافأته اللامحدودة.. تذكر أن تقلب الفكر يساعدك جداً.

إذا لم تتمكن من وضع فكرك في مكانٍ ما، فاعلم أن المكان غير جدير به.. واعلم أن نجاحك في دق مسامير لتثبيته في مكان غير جدير، هو أمرٌ دون قيمة، لأنك حالما تنجح بإجباره على الجلوس ستجده ينهض ويركض إلى مكان آخر.. هذا الاندفاع المثير والرفرفة الهادرة ستستمر حتى الوصول إلى أسمى نقطة من الراحة.. وهذه النقطة هي الله.

 

يقول الناس أن تركيز الفكر أساسي لإدراك الروح الأسمى.. لكني أقول: إذا تم إدراك الروح الأسمى، سيحصل الفكر مباشرة على التركيز المرغوب..

يقول الناس: "حافظ على فكرك ثابتاً بحيث يمكنك معرفة الله".. لكني أقول: حالما تتم معرفة الله سيستقر الفكر ويثبت.

الفكر يندفع إلى المكان الذي يلاقي متعةً فيه، وليس إلى أي مكان أو شيء يُعطيه الألم... وفي لحظة اختفاء إمكانية المتعة تجده يخرج ويطير.. لذلك لا نراه أبداً مربوطاً بشيء محدد واحد.. قم بالعمل وتجميع عشرة آلاف ليرة.. في البداية يقول الفكر: ربما هناك متعة هنا... لكن وااا أسفاه! في اللحظة التالية تماماً يهرب.. بمجرد أن يهدأ ويجلس لحظة قصيرة، يكتشف أنه مخدوع... قم بتجميع عشرة ملايين.. ثم عشرة مليارات.. مجدداً ستختبر نفس الإحباط.. حتى عشرة بلايين مكومة تحتك لن تصنع أي فرق.

لا يمكننا منع النزعات غير المترابطة في الفكر التي تندفع دوماً إلى مكانٍ يحصل فيه على بعض المتعة.. ثم تختفي المتعة فيهرب، لكنه يبقى ثابتاً قليلاً طالما بقي هناك احتمال من السعادة.

في اليوم الذي يحصل فيه على الومضات الأبدية التي لا تنتهي، من المتعة والسعادة الحقيقية، يستغني عن ركضه وهربه ويمتلئ بمحيطٍ من الثبات المطلق.

لذلك، لا أنصح أبداً بفرض الثبات على الفكر بأية طريقة... الثبات المفروض يسبب الخمول ويقود إلى الجمود بدل تحقيق الهدف الأسمى.

 

عندما نصل إلى الهدف النهائي، يبقى الفكر راسخاً ثابتاً.. هذه الحقيقة، عندما تُفسّر خطأً، تُعطي الفكرة الخاطئة بأن الفكر إذا تم الحفاظ عليه ثابتاً سنقدر على الوصول إلى الهدف الأسمى... هذا خاطئ وسخيف مثل وضع العربة أمام الفرس وتوقّع أن تسير صح... حقيقة أن العيون تبقى مغلقة عندما نكون نائمين، لا تبرر منطقاً يقول أن حدوث النوم مضمون بمجرد إغلاق العينين.

نصيحتي لك أن عليك جعل فكرك يسير بالاتجاه الذي ينتشر فيه عطر المتعة الحقيقية... ببطء وبمحبة يجب أن تقود الفكر إلى مسكن السعادة الحقيقية الغامرة... ضع عينيك على السعادة الحقيقية، وسيتبعها الفكر بالتأكيد... لكن لا تستخدم القوة ولا الإجبار حتى دون وعي.. الإجبار حتماً يحرّض المقاومة في الفكر عكس ما تتوقع... ممنوعاتك تصبح دعوات له، ومحرّماتك تصبح جواذب.. إذا أظهرتَ رغبةً بمنعه عن القيام بأي شيء، يتمرد الفكر بقوة وجشع أكبر.. هذا شيء طبيعي.. جهلك بهذه الحقيقة البسيطة هو ما يشغلك بأنواع من المعاناة يمكن بسهولة تفاديها.

 

النقطة الأساسية هي أن فكرك ليس عدوك.. ليس عليك أن تكبت ميوله وغرائزه الطبيعية، بل أن تقودها بمحبة وأن تفهمها، وتستخدم حس البديهة لإيقاظها.

فقط الأشياء الخيّرة هي التي تنجو في نور العقل، في نور حس البديهة والفطنة البعيدة عن البطنة... هناك قاعدة لا تُنسى في الحياة، تتلخص بكلمة: الحب يتغلب على الجميع... لا يمكننا حتى أن نحلم أبداً بهزيمة أي أحد بواسطة الكراهية... أبداً... من المستحيل هزيمة الذين نكرههم، أولئك الذين نعتبرهم أعداءنا... يمكننا فقط هزيمة مَن نحبهم... لذلك، على الراغبين بالانتصار على فكرهم أن يحبوه.. ليس هناك أي طريقة سوى الحب تقود إلى النصر.

 

إذن المفتاح الأول، القاعدة الذهبية الأولى: دعونا نحب أنفسنا...

دعونا نحوّل ونرقّي أنفسنا لا أن نكبتها... دعونا لا نترك شخصيات منقسمة داخلنا.. دعونا نجمع كل أجزاء كياننا في كتلة واحدة متكاملة، وهذه الكتلة لا تولد إلا من الحب... إذا كنتُ ممتلئاً بالحب تجاه مَن أكون، سواء جيد أم سيء، إذا اختفت كل الكراهية والتشويه من فكري، إذا توقفتُ عن مناقضة نفسي رغم أن ذلك يتراءى نبيلاً أو تافهاً ووقعت في محبة كل ما أنا عليه في كليّتي، عندها ستظهر شخصية متراصة متماسكة موحدة داخلي.

هكذا يتم تشكيل الشخصية مع طينة الحب القوية التي تصهر كل العناصر المختلفة سوية، وعندما تذوب أجزائي المختلفة في كتلة واحدة كاملة، يتم توليد طاقة رائعة داخلي.

الطاقة المقطّعة والمقسّمة تتدفق باتجاهات مختلفة ويتم هدرها، لكنها إذا انصهرت واجتمعت ستشكل قوةً هائلة.

أعظم إنجاز رائع لهذه الطاقة، الشيء الناتج عن ذلك الاندماج، هو مقدرتها على تحويل تلك الأشياء التافهة، التي لم تستطع التغلب عليها رغم الصراع المستمر معها.... يمكن تحقيق ذلك بمجرد ظهور الحب لتلك الأشياء التي تتراءى تافهة لنا..

هذه الشخصية الموحدة المنيعة هي أساس هذا التحويل للنفس.

إذا أراد المرء تحسين نفسه وإعادة بنائها، فعليه بالضرورة أن يصير وحدة كاملة موحدة..

إذا كان الفرد مقسوماً إلى عدة أجزاء، فهو يهدر كامل طاقته في جعل جزءٍ يصارع جزءاً آخر، وفي التحكم بها والمحافظة على توازن القوى بينها.

لن يكون هناك طاقة فائضة باقية عنده لأجل تحويل النفس ولأجل ترقيتها..

فقط الشخص الذي يحب نفسه ويحافظ على وحدة كيانه متحدة مندمجة يمتلك تلك الطاقة الفائضة.

 

...يتبع إذا كان هناك عطش وإرادة وتقدير لتغيير المصير

أضيفت في:12-12-2016... زاويــة التـأمـــل> تأمل ساعة
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد