التـشخيص لقد أصبحنا معلّبين ضمن ملفات الفكر ومصنفاته.. معلّقين ومتعلقين بها.. وأصبح العقل حاكماً علينا بدل أن نكون نحن حكاماً عليه... نسينا أننا خليفة الله انطوت فينا الأبعاد والسماوات، فغرقنا في متاهات الأوهام والتخيّلات...
ولكن ما هو الفكر؟
إنه كمبيوتر حي... ولكن أنت لست الكمبيوتر، لستَ آلة بل آية، أنت المشاهد أنت الشاهد عليه، تستطيع إقفاله أينما وحيثما تريد...
عندما يولد الطفل يكون نقياً صافياً بريئاً، بلا أفكار، بلا أخبار، لا وجود للّغو أو الثرثرة في داخله، لأن هذه التقنية تحتاج ثلاث أو أربع سنوات حتى تبدأ بالعمل... وتتحدث البنات عادة قبل الأولاد، إنهن أكثر ثرثرة، ويمتلكن أفضل نوعية من هذا الكمبيوتر الحي أو "الفكر"... وإذا حاولتَ تذكّر حياتك الماضية ستصل إلى مكان ما وأنت بعمر أربع سنوات إذا كنت رجلاً، أو ثلاث سنوات إذا كنت امرأة ووراء ذلك العمر لا شيء سوى الفراغ المطلق.....
لكنك كنت هناك، والعديد من الأحداث قد مرت بك... لكن لا وجود لذكريات مسّجلة عنها... مع أنك تتذكر الماضي كله ابتداءً من سن الثالثة وبكل وضوح...
يقوم الفكر بجمع المعلومات من الأهل، المدرسة، الجيران، الأقارب، الأطفال الآخرين، المجتمع، الكنيسة، الجامع،...
فكل ما يحيط به هو مصدر للمعلومات....
إذا راقبنا طفلاً صغيراً وهو يبدأ بالكلام للمرة الأولى سنجده يعيد الكلمة ذاتها مراتٍ ومراتٍ، فهو سعيد مبتهج لأن تقنية جديدة، قد بدأت بالعمل لديه...
وعندما يبدأ بتركيب الجمل فانه يُكوّن جملاً مضحكة مبهجة.... يكررها مراراً... ثم يبدأ بطرح الأسئلة عن أي شيء، وكل شيء، دون أن يكون مهتماً بمعرفة الأجوبة عن تلك الأسئلة... فلا ضرورة لأن تعطيه جواباً علمياً مطولاً، لأنه سعيد بمقدرته على السؤال فحسب...
ثم يكتسب المزيد و المزيد من المعلومات شيئاً فشيئاً من خلال القراءة ولكنها ليست سوى تراكمات وتزاحمات مقتبسة مستعارة من الخارج وليست معرفة حقيقية داخلية، لأن باب مدينة العلم في الداخل، لا في المدارس والجامعات والشهادات... إنه في أشهد فحسب...
في العصر الحالي لم يعد العلم يطعم خبزاً، أما الكلمات فتقوم بذلك، وكلما كنت متحدثا جيداً كسبت أكثر...
ما هو الشيء الوحيد الذي يجمع بين القادة، رجال السياسة، الأساتذة، علماء الدين واللاهوت والفلاسفة؟؟؟
إنه الكلام البليغ الفصيح، إنهم يعرفون كيف يستخدمون كلمات رنانة طنّانة، متناغمة متناسقة، لذلك يستطيعون أن يؤثروا بالآخرين ويتركوا انطباعاً قوياً لديهم...
مجتمعنا كله مسيطر عليه من قبل الأشخاص المتحدثين ذوي الألفاظ الرنّانة، الذين يعرفون كيف يتلاعبون بالكلمات والعبارات وربما لا يعرفون أي شيء أبعد من ذلك...
إنها مجرد لعبة، وقد تعلموها جيداً، وهي تعود عليهم بالسلطة والمال والاحترام، في كل المجالات والمتاجرات...
ولهذا يحاول الجميع القيام بذلك، حتى غدا العقل محشواً بكم هائل من الأفكار والسخافات والترّهات...
يمكننا تشغيل أي كمبيوتر أو إغلاقه، ولكن لا يمكننا إيقاف التفكير، لأنه لا وجود لمفتاح للعقل... لذلك يعمل باستمرار من الصباح إلى المساء، ومن المساء إلى الصباح...
من الولادة وحتى الممات....
الحل والمفتاح هو بالتأمل، والطرق إلى الحق كثيرة عديدة بعدد أنفاس الخلق...
هناك بحث غريب جداً لدى علماء فيزيولوجيا الدماغ وهو:
إذا تم أخذ الدماغ من جمجمة إنسان حي واحتفظ به حياً بشكل اصطناعي فإنه سيستمر في الثرثرة واللغو بنفس الطريقة دون أن يعنيه مطلقاً أنه لم يعد متصلاً بذلك المسكين الذي كان يعاني بسببه.!.!.
ورغم اتصاله بالأجهزة الكهربائية الميتة سيبقى يتخيل ويتصور، ويحلم ويتوهم، يخاف ويأمل، يخطط ويحلل، يحاول أن يكون هذا أو ذاك....
يمكن الاحتفاظ بذلك الدماغ حياً لآلاف السنوات، مرتبطاً بالآلات الميكانيكية، وسيواصل اللغو ذاته، حول الأشياء ذاتها لأنه لم يعد باستطاعتنا تعليمه أموراً جديدة، ولكن بمجرد أن نزوده بأشياء جديدة فإنه سيقوم بإعادتها وتكرارها...
ولذلك يُعد موت أدمغة كبار العلماء مثل أينشتاين خسارة فادحة، فلو استطعنا إنقاذ ذلك الدماغ وزرعه في جسد إنسان ما فإنه سيواصل عمله ويتابعه سواء كان أينشتاين حياً أم لا، سيستمر بالتفكير بنظرية النسبية وبالنجوم وبعلوم الفيزياء.. وكما تتبرع الناس بدمها، وأعضائها، يمكنها أن تمنح أدمغتها أيضاً، إذا كانت أدمغة مميزة فريدة...!
وهكذا يمكن أن يتحول أي أحمق إلى أينشتاين دون أن يعرف أبداً، لأنه لا توجد حساسية مطلقاً داخل جمجمة الإنسان... وبمجرد أن يصبح الشخص فاقداً لوعيه يمكننا أن نغير أي شيء نريد تغييره داخل دماغه أو حتى تغييره كله... ليستيقظ المسكين بدماغ جديد.. وبثرثرة جديدة.. دون أن يرتاب مطلقاً بما حصل...
إن هذا اللغو هو ثقافتنا وهي ثقافة ناقصة جاهلة، لأنها تُعلّمنا نصف العملية فحسب، إنها تعطينا القفل بلا مفتاح، أو البيت بلا باب، تعلمنا كيف نستعمل عقولنا، ولكنها لا تعلمنا كيف نجعلها ترتاح وتسترخي وتتوقف عن العمل...
العقل بحالة عمل متواصل متلاحق سبعين... ثمانين عاماً.. حتى وأنت نائم... إنه لا يعرف طعم الراحة حيث تتوالى أمواج الفكر متسابقة متدافعة باستمرار... لكن يمكننا إيجاد مفتاح للعقل وإغلاقه عندما لا نحتاج إليه بالتأمل... فالتأمل هو المفتاح إلى درب الصفاء والنقاء والأسرار...
إنه المصباح السحري الذي يضيء أمامنا ظلمة الطريق، ويرشدنا إلى الصراط المستقيم لنصل به إلى السكينة والسلام الداخلي لنعرف أنفسنا، ومن عرف نفسه، عرف ربه....
كما أنه يمنح العقل راحةً واسترخاءً وصفاءً فيغدو أكثر قدرة وكفاءة على إنجاز الأشياء بفعالية وذكاء أكثر... لتصبح أنت السلطان على عقلك وفكرك تستخدمه عند الحاجة فحسب، فيكون نشيطاً جديداً، ممتلئاً بالطاقة والحياة....
ويتحول كل ما تقوله من معلومات ميتة جامدة راكدة إلى شيء عميق أصيل مفعم بالطاقة والتجديد، بالثقة، والحقيقة، والإخلاص...
مع أن الكلمات قد تكون ذات الكلمات ولكنها أصبحت أبعد من حدود الحرف واللفظ موصولة بنبض الوجود لأنك فتحت باب قلبك لنبع الحياة اللامحدود فتبدد ضباب الفكر وانكسرت القيود...
إن ما يُعرف بالكاريزما "الحضور الساحر للشخص" ما هو ببساطة إلا ذلك العقل الذي يعرف كيف يرتاح ويتطهر من مستنقع الأفكار والمحاكمات... ليُشحن بالطاقة، وليتجدد بالحياة... لذلك عندما يتكلم يكون كلامه بمثابة شعر، أو غناء، صلة وصلاة... فيضٌ من عطر ونور وبركات...
لكن العقل الذي يعمل ليلاً نهار مُلزمٌ أن يصبح ضعيفاً، غبياً، كسولاً متخلفاً.. ولهذا يظل الملاييييين من الناس أشقياء، أغبياء، بلا دور وتأثير، مع أنه كان بإمكانهم أن يصبحوا من أصحاب الحضور والبركة والنور...
يمكننا أن نجعل الفكر يهدأ ويصمت لنستعمله عند الحاجة فحسب، ليعود بقوة فجائية سريعة، بعد أن يجني طاقة هائلة، لتذهب أية كلمة نلفظها من القلب إلى القلب مباشرة...
ولكن هذا لا يعني أن عقول الشخصيات ذات الحضور القوي تتمتع بقدرة تنويم مغناطيسية، وإنما هي عقول قوية، جبارة، متجددة، متطورة، تنبض حياة وتدفقاً باستمرار...
هذه فوائد التأمل من ناحية العقل، أما من ناحية النفس والروح، فإن السكينة تكشف أمامنا كوناً جديداً من الأبدية والخلود، ومضة مختلفة من الوعي الكوني الأزلي... من السلام والاستسلام التام لخالق الأكوان...
فلتغامر بكل شيء من أجل تلك الومضة.. وتلك اللمحة.. إلى أن تفنى حبة الرمل في الصحراء... ويموت الجزء في الكل.. وتذوب الذات في الروح... ولا يبقى إلا المعبود والمعشوق.... لا يبقى إلا الواحد الأحد... فالتأمل هو التدين الحقيقي الطبيعي... إنه روح الدين وجوهره...
وهو يمنحنا كلا العالمين معاً:
العالم الإلهي والعالم الدنيوي... الدين والدنيا... علم الأديان وعلم الأبدان... وهذا هو ميزان الإنسان والأكوان.... فتأمل ساعة خير من عبادة سبعين عام...
لن نكون فقراء أو تعساء.. بل سنجني ثروة هائلة.. لكن ليس من المال بل من الأنوار والأبعاد أولاً... ثروة داخلية من الوعي الكوني الصافي... فالثروة الحقيقية هي في الثورة الداخلية....في الانتفاضة الروحية.... في الصحوة الكونية... والغنيّ الحقيقي هو من استغنى عن الأكوان كلها في سبيل رب الأكوان... لا ترحل من كون إلى كون... بل ارحل من الأكوان إلى المكوّن...
بالتأمل تصبح غنياً روحياً وتكتشف نورك الداخلي، تعرف من أنت ولماذا أتيت... تلعب دورك على مسرح الحياة... وتحرر طاقاتك الفكرية في بحر من المواهب الإبداعية الخلاّقة...
إن كل شخص يولد ومعه موهبة مميزة، وإذا لم يعش هذه الموهبة لذروتها وحدها الأقصى، فإن شيئاً ما بداخله سيبقى ضائعاً ومفقوداً...
سيستمر بالشعور بطريقة أو بأخرى أنّ شيئاً ما ينقصه... لهذا امنح عقلك إجازة واستراحة فهو بحاجة إليها، والطريقة سهلة للغاية، كن شاهداً عليه فحسب... شاهداً للحق... والنور... وسيتعلم العقل رويداً رويداً أن يكون صامتاً.... عندما يدرك أنه سيغدو أكثر قوة وفعالية من خلال هذه السكينة وهذا الاستسلام الكلي... ولن تعود الكلمات التي ينطق بها مجرد كلمات تخرج من الفم ولا تتعدى الآذان، بل ستحمل معها الصدق والحقيقة والشفافية، مما يجعلها تنطلق مباشرة كالسهم لتخترق صميم الفؤاد...
فالكلمة الصادقة تنطلق من القلب إلى القلب مباشرة...
وبذلك يكون الدماغ خادماً أميناً مشحوناً بطاقة هائلة يشرف عليها الصمت، صمت السائل والمسؤول... صمت الزهور لا صمت القبور... وستكون أنت السيد، الذي يستطيع استخدام العقل، أو وضعه جانباً كما يشاء... أنت قبطان السفينة تستطيع أن تفتح شراع الفكر أو ترفعه عندما تريد لتبحر في البحر وفي السماء...
أضيفت في:3-1-2006... صيدلية الروح> علاجات الرأس .... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع
|