موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

إلى رُوحِ جَدّي

HTML clipboard

إلهي...
لا تجعلني أصلي لكي أُحمى من الأخطار، بل لأكون شجاعاً في مواجهتها
لا تجعلني أستجدي تسكين ألمي، بل أن أحصل على قلب يقدر أن يغلبه
لا تجعلني أبحث عن الأزقة في معركة الحياة، بل عن قوتي
لا تجعلني ألتمس بخوف وقلق أن أُنقذ، بل أن آمل بالصبر لأربح حريتي
امنحني ألا أكون جباناً، شاعراً برحمتك في نجاحي وحيداً
بل اجعلني أجد يدك وأمسكها في فشلي...


منذ سبعة أيام انتقل جدي إلى بعد آخر.. وهو في عمر الخامسة والثمانين... بعد حادث وقع فيه وهو يمشي على الدرج، فأدى لكسور عميقة في يده وفخذه، وبعدها عمليات المشفى التي لم أعرف ماذا فعلوا فيها...
عندما أخبرني والدي بصوت كئيب عن موت جدي، جدي الذي أحبه جداً وأذكر كل محبته وعنايته منذ طفولتي، لم أعرف لماذا أتتني بسمة خفيفة وكدتُ أن أضحك... تأكدتُ فعلاً أن مصطلح الموت غير موجود عندي... قرأتُ قليلاً ورأيت أسراراً وإشارات... لماذا نخاف الموت ونحزن على الميت ونبكي.. وهل يمكننا فعلاً أن نضحك ونحتفل في مثل هذه اللحظات؟
ذهبتُ لأشارك الأهل والأقارب يوم الدفن... ورأيت الجميع يبكون منتفخي العيون... وأنا منتفخ القلب من الفرح كالمجنون... كانت تجربة وحضرة رائعة تعلمنا جميعاً منها...
وكان العزاء ملتقى للعديد من الناس الذين شاهدوني أضحك وأروي النكات... وتحدثت معهم عن أكذوبة الموت ولماذا نعاني من صدمتها.. رجعت من الاحتفال بعد يومين، لأن ثالث يوم تبدأ فيه كالعادة التجارة بالميت والصلاة والتظاهر والمزاودة ليعرف الناس من الذي كان يحب الميت أكثر ويحب الله والخير والفقراء... لنقرأ معاً ونتعلم عن الموت.

إدراك الموت:
إن دخول الموت ربما يكون من أمتع وأروع الرحلات التي يقوم بها الإنسان... وفكرة بيت الحق أساساً هي ببساطة مكان لملاقاة الحق بحق، مكان لعيش الموت كل لحظة وخاصة قبل قدوم الموت، وعند موت أي أحد من الأهل يكون بين أهله، في أفضل جو وغذاء وأناس علماء بالحياة وبالموت..
العديد من المدارس تقول أن الموت هو باب لتنتقل الروح أو لتذوب وتتحد مع الكون... أي إنا لله وإنا إليه راجعون.. في الموت تحصل على لمحات من النور، هذا الجسد الذي أحببته كثيراً وعشتَ فيه ومعه طويلاً، الآن لن يبقى فيه حياة أو شعور... عندما تدخل هذه التجربة بتأمل سترتعش وتطير في سماء الوعي.
مفهوم إدراك الموت قد يتضمن عدة معاني.... أحدها هو إدراك أنك ستموت في يوم ما... ومع مرور كل لحظة أنت تقترب من الموت... كل ما هو ملكك لن يكون ملكك بعده، ولهذا قال الحبيب: اذكروا هازم الملذات... كل مصادر قوتك وكل مشاكلك لن يبقى لها نفس المعنى بالنسبة لك مع اقترابه... كل المقربين منك والذين تحبهم عليهم قريباً أن يهجروا جسدك.
هذا الإدراك يهدم تماماً تعلقك بأي شخص أو ملكية... يدفعك إلى تجنب الظلم.. يهدم كل سلبيات الحياة مثل الطمع والغيرة والانتقام والغش.... والتي تم اكتسابها في فترة تغذية ونمو الإنسان.... لهذا نجد أن كثيراً من الناس إذا أرادوا التخلص منها ومن آثارها ليعيشوا بسلام، يحبون دائماً تذكير أنفسهم بموتهم المحتوم.

النوع الآخر من وعي وإدراك الموت هو إدراك موت كل شيء... أي شيء يولد سوف يموت... هذه القاعدة تنطبق على كل الأحياء وغير الأحياء، وكذلك على الكواكب والنجوم.... أرضنا الحبيبة تسير أيضاً في رحلتها تجاه الموت... ويوماً ما سيموت كل البشر على سطح الأرض... ببطء وثبات ستنقرض كل أنواع الحياة على الأرض.. وكذلك التراكيب المادية ستفنى.. الأرض بحد ذاتها ستتفكك.. فعلاً هذا إدراك مذهل.
مع هذا الإدراك، لن تعود المشاكل تجلب لك الحزن، لأنك تعرف أن مشاكلك ستموت أيضاً!
وسيصبح المرء أقل تأثراً وتوتراً بأي فشل أو موت...
الأسى سيذهب بعيداً.. والسعادة الدائمة ستصبح حقيقة تعيشها كل لحظة.

الرحلة الأخرى والأقوى والأسمى، لأهل الصفاء والطريق والحق، هي موتوا قبل أن تموتوا... أي الدخول في الموت وأنت لا تزال في هذه الحياة... وهذا يعني أن الجسد الحي الواعي سيختبر موتاً ما أو اقتراباً من الموت...
هناك أوقات معينة يتوقف فيها المرء عن التفكير، الجسد فيها لا يتحرك أبداً وكأنه مخدّر.. ليس فيه أي شعور... الوعي موجود لكنه ضبابي... الجسد تصيبه نوبات من الارتعاش والأمواج... ربما يكون شعوراً بالطيران بين الأكوان... وهذا يعني أن السرير والغرفة والكرة الأرضية تتوقف عن الوجود في هذه اللحظات....
هذه هي الرحلة إلى ذاتنا الأصلية.. إلى طبيعتنا الفطرية... وهذا تحضير لرحلتنا النهائية.. من النور إلى النور... فنعيش هنا والآن، وكأننا لسنا هنا ولا الآن...

 

الرحلة النهائية قد تعني أن الكائن الحي يدخل في موته...
يختبر الموت ويعود مجدداً إلى الحياة...
ومع عودته، ربما يكون شخصاً جديداً....
كل القيم والعلاقات قد تغيرت بالنسبة له:
بالنسبة للميت، لا يوجد شيء جيد أو سيء... لا شيء حلو أو مرّ...
لا يوجد شيء مثل النور أو العتمة... ولا يوجد فرق بين عزيز أو عدو...
لا يوجد فرق بين المشاعر الداخلية والأعمال الخارجية..
كل موضوع أو مفهوم صار مماثلاً لغيره.. ونبعَ التوحيد الحقيقي فيه...
قد تجد أن هذا الشخص لم يعد يعرف كيف يميّز أو يفرّق
سيبقى في حالة من اللامبالاة الدائمة
أو الرضى والتسليم...
سينظر إلى الدنيا والأشياء، لكنه سيعيش مختلفاً عن الناس العاديين
لن يشعر بالعلاقات المعتادة كما يشعر الغالبية المساكين
المتعة الداخلية دائمة وموجودة في كل مكان وزمان
وغالباً، لا نستطيع فهم هكذا إنسان...


الخوف من الموت:
لقد انتشرت الأوبئة وأخذت حياة الكثير من الناس في الأجيال الماضية... الموت عند الرضع وفي الطفولة المبكرة كان كثيراً، ولم يكن هناك إلا قليل من العائلات التي لم تفقد أحد أفرادها بعمر مبكر....
الطب تغير وتطور جداً في العقود الأخيرة... واللقاحات المنتشرة قد أزالت عديداً من الأمراض المُعدية على الأقل في غرب أوروبا وأميركا.... استخدام العلاجات الكيماوية وخاصة المضادات الحيوية ساهم بتقليل عدد الوفيات في الأمراض المعدية.
العناية بالطفل وثقافته تحسنت، فتناقصت نسبة المرضى والوفيات بين الأطفال... وكذلك الأمراض العديدة التي أثرت كثيراً في الشباب ومتوسطي العمر تم التغلب عليها.
عدد الكبار في السن يزداد باستمرار، ومعه يزداد عدد الناس الحاملين للأمراض الخبيثة والمزمنة المترافقة مع التقدم بالعمر.
أطباء الأطفال لديهم عدد أقل من الحالات الشديدة والمهددة للحياة، ولديهم عدد متزايد من الأمراض الجسدية-نفسية ومشاكل السلوك والتنظيم.
الأطباء عموماً لديهم عدد كبير من مرضى المشاكل العاطفية أكثر من أي وقت مضى، لكن عندهم أيضاً عدد أكبر من المرضى الكبار بالعمرـ الذين لا يحاولون فقط العيش رغم قدراتهم الجسدية الضعيفة المتناقصة، بل يواجهون أيضاً الوحدة والعزلة مع كل آلامها وعذابها... غالبية هؤلاء الناس لا يراهم أطباء النفس... يجب أن تلبى حاجاتهم وتحقق من قبل متخصصين آخرين، مثل المصلحين الاجتماعيين أو دور العجزة ورجال الدين.
لأجل هؤلاء الناس سنحاول توضيح التغييرات التي حدثت في العقود الأخيرة، التغييرات المسئولة في النهاية عن الخوف المتزايد من الموت، ارتفاع عدد المشاكل العاطفية، والحاجة الأكبر لكي نفهم ونتعامل مع مشاكل الموت والانتقال.

عندما ننظر للوراء فيما مضى من الزمن وندرس الناس والثقافات القديمة، سنتأثر كثيراً بأن الموت كان ولا يزال غير لذيذ الطعم للإنسان وربما سيكون هكذا دائماً... من وجهة نظر علم النفس، يمكننا فهم هذا جيداً ويمكن شرحه بسهولة... في لاوعينا، الموت مستحيل تماماً بالنسبة لنا... لا يمكن للاوعينا أن يصدق أو يتخيل نهاية حقيقية لحياتنا هنا على الأرض، وإذا كان على حياتنا أن تنتهي، فإن نهايتها دائماً تُنسب إلى تدخل خبيث من خارجنا عبر شيء أو شخص آخر... بكلمات أبسط، في فكرنا اللاواعي يمكن فقط أن نُقتل قتلاً، لا يمكن تصديق أننا قد نموت بسبب عامل طبيعي أو تقدم العمر... لذلك نجد أن الموت بحد ذاته مرتبط بعمل سيء، حدث مرعب، شيء يدل على الجزاء والعقوبة والحساب.

من الحكمة أن يتذكر المرء هذه الحقائق الأساسية، لأنها لازمة لفهم أهم النقاط في كلام وحركات الذين يموتون بقربنا، وإلا ستكون غامضة وتفلت من انتباهنا.

الحقيقة الثانية التي علينا إدراكها، هي أنه في فكرنا اللاواعي لا يمكننا التمييز بين الأمنية والفعل... لا بد أننا جميعاً ندرك بعض أحلامنا غير المنطقية والتي تجد فيها مقولتين متضادتين تماماً جنباً إلى جنب، هذا مقبول تماماً في أحلامنا لكنه غير منطقي ولا يُصدّق في حالتنا الواعية... تماماً مثلما لا يستطيع فكرنا اللاواعي التمييز بين أمنية قتل شخص ما في الغضب، وفعل القيام بالقتل، الطفل الصغير لا يقدر أن يميز هذا أبداً.
الطفل الذي يتمنى بغضب أن تقع أمه ميتة لأنها لم تحقق له حاجاته، سوف يُصدم بشدة بالموت الفعلي لأمه- حتى لو حدث موتها بفاصل زمني كبير عن أمنياته المدمرة...
سوف يحمل دائماً جزءاً أو كامل اللوم الناتج عن فقدان أمه... سوف يقول دائماً لنفسه، (نادراً للآخرين): "أنا قمتُ بهذا... أنا المسؤول... لقد كنتُ سيئاً ولذلك تركتني أمي".
من الجيد أن نتذكر أن الطفل سوف تكون ردة فعله مشابهة أيضاً إذا فقد أحد والديه في الطلاق، الانفصال أو الهجر... الموت كثيراً ما يبدو للطفل كشيء مؤقت، ولذلك لا يوجد فرق كبير بينه وبين طلاق، يمكنه فيه أن يرى والديه في بعض المناسبات.

كثير من الأهل يتذكرون بعض مقولات الأطفال مثل: "سوف أدفن لعبة الكلب الآن، وفي الربيع القادم عندما تتفتح الأزهار، سوف ينهض من جديد".... ربما كانت هذه نفس الأمنية التي دفعت المصريين القدماء لوضع الأغذية والمجوهرات مع موتاهم لجعلهم سعداء، ودفعت الهنود الأميركيين القدماء لدفن أقاربهم مع كل ممتلكاتهم.
عندما نكبر ونبدأ بإدراك أن قدرتنا الهائلة هي حقاً ليست هائلة، وأن أقوى أمانينا ليست قوية كفاية لتجعل المستحيل ممكناً، فإن الخوف من أننا كنا سبب موت شخص نحبه يتناقص، ومعه يتناقض الشعور بالذنب.... هذا الخوف يبقى متناقصاً على أية حال، فقط طالما لا شيء يتحداه بقوة كافية.... آثار هذا الخوف يمكن رؤيتها يومياً في ممرات المشافي وفي الناس المفجوعين بأحد أقاربهم.
قد يكون الزوج والزوجة يتقاتلان منذ سنين، لكن عندما يموت الشريك، فإن الشريك الباقي سيشد شعره ويبكي وينحب بصوت عالي ويضرب على صدره من الندم والخوف والعذاب، ولهذا سيخاف من موته هو أكثر من ذي قبل، وهو يؤمن بقانون العين بالعين والسن بالسن... "أنا المسؤول عن موتها... وعلي أن أموت موتاً حقيراً كعقوبة لي".

ربما ستساعدنا هذه المعرفة على فهم كثير من العادات والتقاليد القديمة التي استمرت طيلة قرون، وكانت غايتها إنقاص غضب الآلهة أو الناس، وهكذا تقليل العقوبة المستحقة... عدة تقاليد مثل حرق الجثة ونثر الرماد، تمزيق الثياب والبكاء، الحجاب وغيرها من الأساليب التي تدفعك للشفقة على النوّاحين، وهي تعابير عن الأسى والحزن والخجل والعار.

إذا حزن أحدهم وقام بضرب صدره وتمزيق شعره أو رفض الأكل، كلها محاولات ليعاقب نفسه، ليتجنب أو ينقص العقوبة المستحقة بسبب اللوم الذي يحمله عن موت شخص يحبه.

هذا الأسى والعار والذنب ليست بعيدة أو منفصلة عن مشاعر الغضب والغيظ.. عملية الأسى تتضمن دائماً بعض صفات الغضب... لهذا لا أحد منا يحب أن يعترف بالغضب على شخص ميت، هذه العواطف غالباً ما تتنكر أو تُكبت وتُطيل فترة الأسى أو تظهر بطرق أخرى... من الجيد تذكر أنه ليس علينا الحكم على هذه المشاعر بأنها سيئة أو مخجلة، بل علينا فهم معناها الحقيقي وأصلها كشيء إنساني جداً.

لكي أوضح هذا سأستخدم مجدداً مثال الطفل، والطفل داخلنا..
الطفل ذو الخمس سنوات والذي فقد أمه، تجده يلوم نفسه على اختفائها، وغاضب تجاهها لأنها هجرته ولم تعد تلبي له حاجاته.... الشخص الميت عندها يتحول إلى شيء يحبه الطفل ويرغبه بشدة لكنه أيضاً يكرهه بنفس الشدة بسبب حرمانه الشديد.

اليهود القدماء اعتبروا جسد الشخص الميت شيئاً متسخاً نجساً ويجب ألا يلمسه أحد.. الهنود الأميركيين القدماء تحدثوا عن الأرواح الشريرة وكانوا يرمون السهام في الهواء ليطردوا الأرواح.
عدة حضارات أخرى عندها تقاليد للاعتناء بجسد الشخص الميت "السيئ"، وكلها تعود إلى هذا الشعور بالغضب والذي لا يزال موجوداً فينا جميعاً، رغم أننا نكره الاعتراف به.
تقليد وضع بلاطة الضريح وشاهدة القبر قد يعود في أصله إلى هذه الرغبة بإبقاء الأرواح السيئة عميقاً في الأرض، والحجارة التي يضعها أقرباء الميت على القبر هي رموز باقية تدل على نفس الرغبة.
ورغم أننا نسمّي إطلاق البنادق في الجنازة العسكرية التحية الأخيرة، لكنها نفس التقليد الرمزي الذي يستخدمه الهنود عندما يطلقون الرماح والسهام في السماء.

أعطيتكم هذه الأمثلة لكي أشدد على أن الإنسان لم يتغير بشكل أساسي.. لا يزال الموت حدثاً مخيفاً ومرعباً، والخوف من الموت خوف كوني حتى لو اعتقدنا أننا سيطرنا عليه وتجاوزناه في عدة مستويات.
الذي تغير هو طريقة تعاملنا وتفاعلنا مع الموت والذي يموت...

في المناطق التي لم تتطور كثيراً بعد ولم تدخل إليها هذه الحضارة المزيفة، نجد أن الخوف من الموت أقل بكثير من مدننا الحديثة... والموت مقبول ويحدث بشكل طبيعي مثل غيره من الأحداث اليومية...
تذكرتُ حادثة موت أحد أصدقاء جدي، وهو فلاح بسيط يعيش في قرية صغيرة نائية... وقع من على الشجرة ولم يتوقعوا له أن يعيش بعدها.. فطلب ببساطة أن يموت في منزله، وتم تحقيق طلبه دون أي تردد.
استدعى كل بناته إلى جانب سريره وتحدث مع كل منهن لوحدها بضعة دقائق.. قام بترتيب أشغاله بهدوء، رغم أنه كان في ألم شديد، ووزع ممتلكاته وأرضه، على ألا يتم تقسيم أي منها طالما زوجته على قيد الحياة.. وطلب أيضاً من كل أولاده أن يشاركوا في العمل والواجبات التي كان يعملها قبل الحادث.. طلب من أصدقائه أن يزوروه مرة أخيرة ليودعوه، ولم ينسى الأحفاد وحتى الأطفال الذين عرفهم وأحبهم مثل أحفاده... وتم السماح للأطفال بأن يشاركوا العائلة في تحضيراتها وفي بكائها حتى موعد وفاته... وعندما مات تم تركه في منزله، منزله الذي بناه بيده وأحبه جداً، وبين أصدقائه وجيرانه الذين اجتمعوا حوله ليأخذوا نظرة أخيرة قبل الوداع، مستلقياً بين الورود والأزهار في مكانه المفضل.
في تلك القرية وحتى اليوم، لا يوجد غرفة خاصة للميت أو تمثيل أو مكياج خاص ليبدو الميت كأنه نائم... فقط علامات الإصابات المشوهة الواضحة كانت تغطى بضمادات، وفقط حالات الموت بأمراض معدية كانت تؤخذ من البيت قبل الدفن.

ولماذا وصفت لكم موت هذا الفلاح وتقاليدهم "القديمة"؟؟؟.. لأنها دليل على قبولنا لحوادث الموت، وهي تساعد المريض المحتضر إضافة إلى عائلته، على قبول فقدان شخص عزيز...
لو أن المريض يُسمح له بإنهاء حياته في مكان محبوب ومألوف له، سيتطلب موته تحضيرات أقل له ولأهله.. فعائلته التي تعرفه جيداً ربما تستبدل الأدوية المسكنة بزجاجة من نبيذه المفضل، وربما صحن شوربة طبخت في البيت وتفتح شهيته لتناول بعض الرشفات، أعتقد أنها مفرحة أكثر بكثير من كيس الحقنة... طبعاً أنا لا أقلل من الحاجة للمسكنات والحقن وربما تكون منقذة للحياة في بعض الحالات ولا يمكن الاستغناء عنها، لكنني أعرف أن الصبر ووجود أشخاص مقربين والغذاء الجيد قد تغني في كثير من الحالات عن أكياس الحقن المعطاة لمجرد أن إعطاءها يوفر جهد ووقت الدكاترة والممرضات......
وموضوع السماح للأطفال بالبقاء في البيت الذي وقع فيه حادث مميت، ومشاركتهم في الأحاديث والمناقشات والمخاوف، يعطيهم شعوراً بأنهم ليسوا وحدهم في أحزانهم ومعاناتهم، فيشعرون بالراحة والمشاركة بالمسؤولية في كل شيء... وهذا يحضّرهم تدريجياً ويساعدهم على رؤية الموت كجزء من الحياة، كتجربة ستساعدهم على النمو والنضوج.

هذا نقيض تماماً لما يحدث في المجتمع الحديث، حيث يُنظر للموت وكأنه شيء محرم، الحديث عنه ممنوع ومخيف، ويتم إبعاد الأطفال مع افتراض أن حادثة الموت ستكون "قوية وكثيرة عليهم".. فيتم إرسالهم غالباً إلى الأقرباء، وغالباً مع أكاذيب غير مقنعة مثل "أمك قد ذهبت في رحلة طويلة جداً" أو غيرها من القصص الكاذبة...
الطفل يستشعر أن هناك شيء ما خاطئ، وعدم ثقته بالكبار فقط ستزداد وتتضاعف إذا أضاف بقية الأقارب تفاصيل جديدة للقصة، وتجنبوا أسئلته وشكوكه، وأعطوه الكثير من الهدايا والحلويات كبديل تافه عن شيء مفقود لا يُسمح له بالسؤال عنه.... عاجلاً أم آجلاً سيدرك الطفل التغيير في حالة عائلته، وحسب عمر وشخصية الطفل، سيحمل حزناً غير محلول وسيعتبر هذا الحدث شيئاً غامضاً ومرعباً.. تجربة صادمة مع أناس كبار غير جديرين بالثقة، وليس عنده أي طريقة للتعامل معها.

بشكل مماثل ومساوي، من غير الحكمة أن نقول لطفلة صغيرة فقدت أخاها بأن الله أحياناً يحب الأطفال الصغار كثيراً فيأخذهم إلى الجنة... عندما تكبر هذه الطفلة وتصبح امرأة، لن تحل غضبها أبداً تجاه الله، والذي قد يؤدي إلى اكتئاب نفسي كبير عندما تفقد مثلاً طفلها الصغير ولو بعد ثلاثين سنة من حادثة الموت الأولى.

ربما نحن نعتقد أن تحررنا العظيم ومعرفتنا الكبيرة للعلم والإنسان، قد أعطتنا طرقاً ووسائل أفضل لتحضير أنفسنا وعائلاتنا لهذه الحادثة المحتمة... لكن بالعكس، لقد مضت الأيام التي كنا نسمح فيها للإنسان بأن يموت بسلام وكرامة في بيته الخاص به..

يبدو أنه كلما حققنا تطوراً أكبر في العلم والطب، صرنا نخاف وننكر حقيقة الموت..
فكيف يمكن أن يحدث هذا؟
لقد صرنا نستخدم الكلمات اللطيفة البديلة، ونجعل جسد الميت يظهر وكأنه نائم، نرسل أطفالنا بعيداً لكي نحميهم من القلق والتوتر المحيط بمنزل المريض المحتضر طبعاً إذا كان محظوظاً كفاية ليموت في منزله، ولا نسمح للأطفال بزيارة أهلهم المحتضرين في المشفى، لدينا نقاشات طويلة ومتناقضة حول إخبار المريض المحتضر بالحقيقة أم لا، وهذا سؤال نادراً ما يظهر إذا كان المريض في منزله ويعالجه طبيب العائلة الذي عرفه من الولادة إلى الموت وعرف نقاط قوة وضعف كل أفراد العائلة.

أعتقد أن هناك العديد من الأسباب وراء هذا الهروب من مواجهة الموت بهدوء.. أحد أهم الحقائق هي أن الموت هذه الأيام أكثر رهبة وشناعة بعدة طرق، وتحديداً، يموت المرء وحيداً معزولاً بين الأجهزة بعيداً عن أي جو إنساني، ويموت في لحظة يصعب حتى تحديدها تقنياً بالأجهزة... الموت في الجماعة رحمة، لكن الموت في المجتمع رهبة....

بهذا يصبح الموت مليئاً بالعزلة والوحشة، لأن المريض غالباً ما يُبعد عن جوّه المألوف ونركض به إلى غرفة الطوارئ... أي شخص منكم قد كان مريضاً جداً واحتاج للراحة والهدوء، لا بد أنه يتذكر كيف حملوه على النقالة وتحمّل ضجيج صفارة سيارة الإسعاف والاندفاع المحموم حتى الوصول وانفتاح أبواب المشفى... فقط أولئك الذين مروا بمثل هذه التجربة سيقدّرون صعوبة وبرودة هذا الركض إلى المشفى وهو مجرد بداية لمحنة طويلة، صعبة التحمل حتى للشخص السليم، وصعبة الوصف بالكلمات عندما تحاط بالضجة والأضواء والمضخات والأصوات العالية الأعلى من مستوى احتمالك....
قد يكون من الجيد أن نهتم أكثر بالمريض المُلقى تحت الأغطية... وربما نوقف اندفاعنا الهائل لإنقاذه بجدارة، لكي نمسك بيده ونبتسم أو نصغي لسؤال منه.. الرحلة إلى المشفى هي الحلقة الأولى في مسلسل الموت هذه الأيام، قارنوا بها مع حالة المريض الذي يموت بهدوء في بيته.. ولا أقصد أنه يجب عدم إنقاذ الحياة إذا احتجنا للمشفى ومساعدته، لكن لنبقي أكثر تركيزنا على المريض ذاته وتجربته وحاجاته وردات فعله.

عندما يكون المريض متعباً جداً، فغالباً ما يُعامل كشخص دون أي حق وأي رأي.. وغالباً ما يقوم شخص آخر باتخاذ القرارات متى وأين وفي أي مشفى سيُنقل إليه وغيرها... لن يأخذ الموضوع إلا قليلاً من اهتمامنا إذا تذكرنا أن المريض أيضاً لديه مشاعر وأمنيات وآراء... ولديه كأهم من كل هذا، الحق بأن نصغي إليه.

إذاً، وصل مريضنا الافتراضي إلى المشفى الآن والى غرفة الطوارئ.. سيحيط به الممرضات المشغولات، المساعدين، الأطباء، المرضى الآخرين، خبراء المخبر الذين ربما يأخذون عينة من دمه، وخبراء تخطيط القلب، ربما يُنقل إلى جهاز تصوير الأشعة السينية ويسمع هناك بالصدفة عدة آراء حول حالته ومناقشات وأسئلة أفراد عائلته... وهنا ببطء لكن بالتأكيد نبدأ بمعاملته كشيء.. لم يعد كفرد أو إنسان.. ونأخذ قراراتنا غالباً دون سماع رأيه.. إذا حاول الرفض أو التمرد سنعطيه المسكنات القوية، وبعض مضي ساعات من المناقشة وتقدير ما إذا كان عنده القدرة والاحتمال، يتم حمله إلى غرفة العمليات أو غرفة العناية المشددة، متحولاً بهذا إلى شيء يستدعي كثيراً من الاهتمام ويحقق كثيراً من الاستغلال والاستثمارات المالية.

قد يصرخ المريض طالباً بعض الراحة والسلام والكرامة، لكنه سيتلقى أكياس الحقن وعمليات نقل الدم وجهاز منظم للقلب أو فتحة تنفس في القصبة الهوائية عند الحاجة...
قد يريد شخصاً واحداً جانبه ليتوقف دقيقة واحدة فيستطيع سؤاله سؤالاً واحداً فحسب، لكنه سيحصل على دزينة من الناس حوله طوال الوقت، مشغولين جداً بنبض وسرعة دقات قلبه ووظائف تنفسه وإفرازات أعضائه وجسمه لكن ليس به هو كإنسان حي....
قد يرغب بمقاتلة وإيقاف كل هذا، لكن قتاله دون جدوى لأن كل هذا أصلاً هو "قتال" لأجل إنقاذ حياته.. وإذا استطاعوا إنقاذ حياته يمكنهم إعادة الاعتبار والاهتمام بالشخص لاحقاً...
فأولئك الذين يهتمون بالشخص أولاً قد يخسرون وقتاً ثميناً في عملية إنقاذ حياته!
هذا التصرف السريع على الأقل يبدو أنه العذر والتبرير الضروري وراء كل اندفاعنا... أم لا؟
هل السبب وراء كل هذه المعاملة الآلية المتزايدة وغير الإنسانية، هو مدافعتنا القوية عن أفكارنا ومنطقنا؟
هل هذه المعاملة هي طريقتنا في التلاؤم وكبت المقلقات والمشاكل التي يسببها المريض المحتضر في أنفسنا؟
هل تركيزنا الشديد على الآلات وعلى ضغط ونبض الدم، محاولة يائسة لإنكار الموت قريب الحدوث، والذي هو فعلاً يرعبنا ويزعجنا فندفع بكل معارفنا واهتمامنا إلى الآلات، على اعتبار أنها أقل قرباً إلينا من وجه إنسان يعاني ويتألم وقد يذكّرنا مجدداً بعجزنا وحدودنا وفشلنا، وطبعاً في الأخير وليس الآخر، موتنا القادم والمحتوم؟
 

ربما علينا طرح هذا السؤال: هل نحن نصير أقل أم أكثر إنسانية؟


مهما كان الجواب، نجد للأسف أن المريض صار يعاني أكثر مما مضى، ربما ليس جسدياً فحسب، بل عاطفياً ونفسياً أيضاً... رغم أن حاجاته لم تتغير عبر العصور، لكن فقط قدرتنا على تحقيقها...
 

لا حلّ إلا بالعقل والتعقل... برمي الأمل وعيش التأمل...

ونراكم يوماً ما مع الحق في بيت الحق...


www.BaytalhaQ.com
علاء السيد... دمشق.. 26 آب 2010
 

أضيفت في:26-8-2010... حياة و موت> ولادة و موت و نمَوت
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد