حرر العصفور داخلك وانطلق للنور
منذ
أن كنت طفلا صغيرا...وأنا أهوى تربية الحيوانات المنزلية بأنواعها...وبصراحة لم أكن
أربيها لمجرد الاقتناء فحسب...بل كنت أربيها لأتعلم منها وأتأمل في حركاتها وفطرتها
وعفويتها بالإضافة إلى حبي الكبير لها بشكل عام...
وفي العام الماضي كنت أقتني عددا من طيور الزينة في قفص صغير... وكنت أحرص على
الاعتناء بها...لدرجة أنني كنت أفتح لها باب القفص لتتحرك وتمرح بحرية في نواحي
المنزل... ولتشبع فضولها في الاستكشاف ...
لكنني كنت ألاحظ شيئا غريبا على تصرفات تلك الطيور عندما كنت أفتح لها باب القفص!!...
فبالرغم من أن أمامها فرصة للتحرك والطيران والاستكشاف... إلاّ أنها لم تكن تملك
الجرأة الكافية لذلك...فقد كانت تفضّل العودة إلى داخل القفص الذي تعيش فيه...ولاسيما
أن بعض من هذه العصافير قد وُلد فيه ولم يعرف أبدا معنى للحياة خارجه...
ثم سألت نفسي...لماذا يغامر ذلك العصفور في الانطلاق إلى المجهول ..وعنده في قفصه
كل ما يحتاج إليه من طعام وشراب ودفء وراحة؟؟.
وبالرغم من أن الحياة الطبيعية لهذا العصفور في الأصل تكون في التحليق والطيران
بحرية ودون حدود أو قيود تحت السماء الصافية...وبين أغصان الشجر...وفي مروج الأزهار...وفوق
البحار والأنهار...إلاّ أن هذه الحياة الطبيعية التي تتناسب مع فطرته أصبحت مجرد
فكرة غريبة و مغامرة خطيرة تملؤها المخاوف والمتاعب لو فكر بالذهاب إليها...
وبذلك يكون ذلك العصفور قد نسي نفسه وجهلها...وعاش حياة لا معنى لها...لأنه لا يملك
حرية الاختيار في أي أمر من أمور حياته وتفاصيل معيشته...فلم يعد بيده حرية اختيار
طعامه أو شرابه أو مكانه...وكل ذلك أصبح بيد صاحب القفص الذي امتلكه وزرع في رأسه
فكرة أن كل حياته وطموحاته وأحلامه لا يجب أن تتعدى قضبان ذلك القفص!!
وكم يشبه ذلك العصفور بكل تفاصيل حياته....تفاصيل حياة إنسان اليوم وهذا الزمان!!
إنسان اليوم الذي نسي نفسه وجهلها...ورضي بأن يكون مجرد أسير ومستهلك ومحتاج لعطايا
غيره...ممن يملكون المال والسلطة والقوة والإعلام في العالم...
تلك النخبة التي تملك العالم وثرواته وموارده...وتسيطر على مليارات البشر وأغلب
الشعوب...لتحقيق مصالحها ومخططاتها...
تلك النخبة التي أتت لنا بالنظام العالمي الجديد الذي جعل الإنسان كالآلة التي تم
برمجتها لتسير على خط سير واحد من مولد ذلك الإنسان حتى وفاته ورحيله عن هذه
الدنيا...
خط سير يبدأ بالتعليم والتلقين والتعليب وحشو العقول بالمعلومات والأفكار...ومن ثم
تبدأ عملية البحث عن الوظيفة بين الشركات والمؤسسات بهدف الحصول على المال والتنافس
على المركز الاجتماعي...ومن ثم الزواج وانجاب الأبناء الذين بدورهم سيدخلون على نفس
خط السير ...وتستمر هذه الدائرة المفرغة سنين طويلة ...وعبر أجيال وأجيال...
طريقة الحياة تلك جعلت من الإنسان اليوم كائنا ماديا...تتمركز كل آماله وأحلامه ما
بين جمع المال... والحصول على الشهادات و المركز الاجتماعي المرموق ...والحياة
المرفهة المليئة بالكماليات والمظاهر...
وظن الإنسان أنه محتاج لهذا كله ليسعد بحياته...وطبعا لا سبيل للوصول إلى كل تلك
المغريات إلاّ بالسير في نفس ذلك الخط الذي وضعوه النخبة ليسيطروا على البشر لإنجاح
مخططاتهم..
فأصبح البشر كالنسخ يشبه بعضهم بعضا في أفكارهم وأحلامهم وآمالهم ومتطلبات
حياتهم...
فأي حياة هذه التي يعيشها من أراده الله أن يكون خليفة له على أرضه؟؟؟
أي حياة هذه التي ما زال يركض الإنسان فيها لاهثا وراء أحلامه المستقبلية...التي
أفسد في سبيلها لحظته الحالية التي بين يديه؟؟؟
أي حياة تلك التي يسعى فيها الإنسان لجمع المال طيلة حياته...دون أن يقنع أو يكتفي
أو حتى يشكر الله على ما بين يديه... بل وأهمل نفسه وصحة جسده وصحوة ضميره...
وانتشر الجهل والمرض والحروب ...
ومع ذلك كله يتفاجأ الإنسان في آخر المطاف أنه لم يصل إلى السعادة الحقيقية ولا إلى
انشراح الصدر أو راحة البال التي كان يرجوها...وأنه قد قضى عمره لتنفيذ مخططات غيره
ولم يعش لنفسه!!
وأهمل الأمانة التي وكله الله بحملها بعد أن عجزت السماوات والأرض والجبال عن
حملها...لعظم مسؤولية من يحملها...لكن الإنسان كان ظلوما جهولا..ولازال في ظلمه
وجهله إلى اليوم...
ولو توقف هذا الإنسان عن الركض وراء أحلامه قليلا وتأمل في نفسه..وتعرف عليها حق
المعرفة...
لعلم أنه كائن فريد مميز...يملك داخل نفسه كل مفاتيح السعادة والرزق والحياة
بمعناها الحقيقي...ولعلم أن لا طعم للحياة إلاّ بالتمرد والتحرر من القيود والأغلال
الجسدية والفكرية والنفسية المحيطة به...وأن يكون هو سيد نفسه ...ولعلم أن لا بهجة
ولا سرور إلاّ عندما ينفض ذلك الإنسان عن نفسه غبار الغفلة...ويفتح أبواب قلبه
وحواسه على الوجود بأسره...فيحيا الصلة والوصل بحب وسعادة وسلام...
وحينها فقط سيشعر هذا الإنسان بالاستغناء الذاتي...لأنه وجد كل ما يحتاج إليه داخل
نفسه وقلبه...
وهذه هي الحياة الطبيعية للإنسان التي نسيها...بعد أن تملكه الخوف من الانقياد لصوت
الحق الذي بداخله...لكي لا يخسر منصبه أو ماله ويدخل في المجهول...فيعيش عمره مطيعا
لأوامر من فوقه...لأن بيدهم الرزق والمال!!
يقول الإمام علي كرم الله وجهه:
( استغن عمن شئت تكن نظيره...واحتج لمن شئت تكن أسيره...وأحسن إلى من شئت تكن أميره
)
ويقول أيضا:
(دواؤك فيك وما تشعر...وداؤك منك وما تبصر...وتحسب أنك جرم صغير...وفيك انطوى
العالم الأكبر)
ففينا الداء والدواء...والصحة والمرض...والغنى والفقر...وإذا كان الله هو الرزاق
والفتاح والوهاب والقدير...فمم نخاف؟؟
يقول الله تعالى : (( يا ابن آدم ! لا تخافن من ذي سلطان ما دام سلطاني باقياً ،
وسلطاني لا ينفد أبداً .
يا ابن آدم ! لا تخش من ضيق الرزق وخزائني ملآنة ، وخزائني لا تنفد أبداً .
يا ابن آدم ! لا تطلب غيري وأنا لك ؛ فإن طلبتني وجدتني ، وإن فتني فتك وفاتك الخير
كله .
يا ابن آدم ! خلقتك للعبادة فلا تلعب ، وقسمت لك رزقك فلا تتعب ؛ فإن رضيت بما
قسمته لك أرحت قلبك وبدنك وكنت عندي محموداً .
وإن لم ترض بما قسمته لك : فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش
في البرية ، ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك ، وكنت عندي مذموماً .
يا ابن آدم ! خلقت السماوات السبع والأراضي السبع ولم أعي بخلقهن ؛ أيعييني رغيف
عيش أسوقه لك بلا تعب ؟
يا ابن آدم ! إنه لم أنس من عصاني ؛ فكيف من أطاعني ، وأنا رب رحيم ، وعلى كل شيء
قدير ))
يا إخوتي يقول المثل..لا يضيع من له أب..فكيف بمن له رب؟!
يُحكى أن ملكا كان يحب وزيرا عنده حبا عظيما...وكان يشركه في كل أموره
وأسراره...وفي أحد الأيام خانه ذلك الوزير وأفشى ببعض أسراره لأعداء المملكة...ولم
تكن هناك عقوبة مناسبة لمثل تلك الجريمة سوى القتل...
ولكن الملك كان مازال يحب ذلك الوزير...فقرر أن يعرض عليه أمرين وعليه أن يختار من
بينهما...
الأمر الأول كان القتل والإعدام...والأمر الثاني كان بأن يقوم بفتح الباب الأسود
الذي أمامه...وسيتحمل قدره وما يأتيه من وراء هذا الباب...الذي لا يعلم ما وراءه
إلاّ الملك...
احتار الوزير كثيرا...وتردد...لكنه في النهاية اختار الموت على أن يختار الباب
الأسود...
وبعد أن قُتل...سألت زوجة الملك ماذا كان ينتظره وراء ذلك الباب الأسود المخيف...
فقال: لا شيء ...لا شيء على الإطلاق...فلو اختار فتحه لوجد أن الباب يطل على العالم
بأسره ولكان حرا الآن...
نحن أيضا نملك ذلك الباب الأسود ...فأفكارنا هي بابنا الأسود الذي نخاف أن نتخطاه
ونخترقه...ونفضل أن نموت في اليوم ألف مرة ونتذمر على أوضاعنا ومشاكلنا وتعاستنا...
حتى أصبحنا كالأموات الذين لم تحن بعد ساعة دفنهم!
وكل ذلك لعدم ثقتنا الكاملة بأنفسنا...وما أودع الله فيها من قدرات وأسرار...تأهلنا
لنخترق كل الحواجز ونصل إلى كل العوالم...ولكنه الجهل والخوف واعتمادنا على الظروف
الخارجية المحيطة بنا الذي يمنعنا من التغيير والتمرد...
((أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس
بخارج منها))
يُحكى أنه كان هناك حطاب يخرج كل يوم إلى الغابة...ليقطع الشجر...وبينما هو يحاول
قطع شجرة كبيرة من جذعها...لاحظ وجود عصفور صغير يقف على أحد أغصانها...
فسأله الحطاب: ألا تخاف أن تسقط الشجرة وأنت واقف عليها فتتأذى؟؟
فقال العصفور : يا هذا إنّ اعتمادي على جوانحي...وليس على الشجرة التي أقف عليها..
فكل إنسان منا حالة فريدة خاصة بذاتها...ولكل إنسان جوهرته المميزة داخل
نفسه...وعليه أن يكتشفها وينميها...وحينها فقط يستطيع الاعتماد عليها وأن يغامر بكل
جرأة ودون أن يعطي أي اعتبار للظروف من حوله...فالعبرة بما بداخل النفوس وليس
بالأوضاع والظروف..
فابن نبي الله نوح عليه السلام قرر أن يبقى على غفلته...مع أن أباه كان أكبر داعية
إلى التوحيد في التاريخ...
وآسية امرأة فرعون قررت أن تكون من المؤمنات...بالرغم من أن زوجها كان أكبر طاغية
في الظلم والعناد والاستكبار...
وما يحصل اليوم من ثورات في عالمنا العربي...للتمرد على ظلم الحكام وقهرهم... فإن
لم تكن هذه الثورات ناتجة عن ثورة داخلية في نفوس الشعوب على جهلهم وظلمهم...فلن
يكون هناك حل للمشكلة...وسيبقى الحال على ما هو عليه...ولكن قد يتغير الحاكم
والدستور...ويبقى الجهل والظلم متأصلا في نفوس الناس...وهم بذلك كالذين يخرجون من
حفرة إلى حفرة...ومن صندوق إلى صندوق...وستتكرر نفس سنوات القهر والعذاب ولكن بمظهر
جديد...فكما تكونوا يولّى عليكم..
(( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ))
إذن فالتغيير يبدأ من الداخل يا إخوتي...وإذا غيرنا ما بداخلنا فإن الظروف الخارجية
حتما ستتغير ...وستتناغم مع شعلة التغيير التي في نفوسنا...وليس العكس أبدا
أخوكم المحب عبد الرحمن
أضيفت في:15-7-2011... كلمة و حكمة> خواطر من عبد الرحمن .... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع
|