العلامة فريد ابن حميد وبحثه عن السلام
بعد
دراسة القرآن والإنجيل والتفاسير وكل الكتب الدينية المقدسة، رجع الشيخ العلامة
فريد ابن حميد إلى منزل والده... لقد عرف كل ما يمكن معرفته، لكن فكره لم يعرف
السلام... كانت الرغبات وأنواع المتعة تثيره باستمرار، ولم يهدأ باله بسبب حرارة
الشهرة المشتعلة.... مع أنه تحديداً لأجل التخلص من هذه الرغبات انطلق في البحث عن
المعرفة، لكن القلق بقي كما هو، وفوق كل ذلك ازداد وزن المعرفة المحمولة في رأسه!
طبعاً هذا ما سيحدث.. ما علاقة معرفة الكتب المقدسة بولادة السلام الداخلي؟.. لا
يوجد علاقة بينهما، بل على العكس ذلك النوع من المعرفة يزيد الاستكبار ويفتح أبواب
القلق والانشغال على مصراعيها... لكن هل من المناسب أن ندعوها معرفة إذا لم تكن
تقدّم السلام لحاملها؟ المعرفة عادة تعطي السلام والخفة والنور.. فهل يمكن لشيء
يعطي الهم والثقل والقلق أن يكون معرفة؟
نعم الجهل مؤلم... لكن إذا كانت المعرفة أيضاً ألم، فأين هي السعادة إذن؟؟
إذا كانت المعرفة أيضاً لا تقدّم السلام، فربما من المستحيل أن نجد السلام...
إذا لم نستطع إيجاد السلام على أبواب الحقيقة، فأين يمكن أن نجده؟... إذن ألا يوجد
أي حقيقة في الكتب المقدسة؟... كل هذه الأسئلة في فكر فريد تعصف عصفاً.... كان
قلقاً جداً وقال لوالده حميد:
"لقد درستُ كل الكتب المقدسة.. وكل ما يمكن تعلمه من المعلمين تعلمته.. لكنني لم
أجد السلام في كل ذلك... أنا قلق جداً ومضطرب... والآن هل يمكن رجاءً أن تدلني على
الطريق إلى السلام الداخلي؟ ماذا يجب أن أفعل؟"
ملاحظته كانت صحيحة.. لم يجد السلام ولا يمكن أبداً إيجاد السلام في أي مكان.. لا
في الكتب المقدسة ولا في تعاليم المعلمين... إنه ليس شيئاً يمكن إيجاده خارج ذاتك..
وفي الحقيقة لا يمكن تجسيده إلا انطلاقاً من النفس.
وماذا قال حميد لابنه فريد؟: "يمكنك إيجاد السلام في الزهد والتخلّي".
رغبة فريد بالمعرفة لم تكن مجرد فضول بسيط.. بل كانت أعظم رغبة في حياته... لذلك،
استغنى عن كل شيء، وانطلق إلى الزهد والتقشف المطلق... وأمضى سنوات من حياته يرتدي
فقط قطعة من الجلد... مع تطبيق كل أنواع الصيام وطرق كبت الجسد وكل وسائل التكفير
عن الذنوب... ومضت السنين.. لكنه لم يقدر على سماع صوت خطوات السلام قادماً إليه.
بعدها قرر أن قطعة الجلد يجب أيضاً الاستغناء عنها، وبدأ يعيش عارياً تماماً... لقد
اعتقد أن الطمع ربما بهذه القطعة هو ما يقف كآخر عقبة في طريقه، والآن تقفشه كامل
تماماً بلا شك.. لكن السلام لا يزال غائباً ومجهولاً...
في النهاية، قام بتحضير آخر عمل له... اعتقد فريد أن الجسد ذاته هو العقبة
الأخيرة.. فهو أيضاً يمثل رغبة للمحافظة على الحياة... في الواقع، الصيام والإصرار
جفف جسده وأنهكه ولم يكن هناك إلا بقايا جسد هزيل... لكن الجسد لا يزال موجوداً!
فقرر إنهاءه... أشعل ناراً كبيرة واستعد للتخلص من جسده.
مهما كان الثمن بالنسبة لفريد، لا بد من إيجاد السلام.... ولكي يصل إليه كان مصمماً
حتى على عناق الموت.
عندما التهبت ألسنة النار في الحطب بقوة، ذهب ليطلب موافقة والده على رمي نفسه
فيها.... لكن والده حميد ضحك وأوقفه قائلاً: "أيها المجنون، ماذا ستكسب بالاستغناء
عن جسدك؟ طالما بقي الفكر مليئاً بالرغبات والتعلقات، فلا يمكن تحقيق شيء حتى بحرق
الجسد.... الرغبة دوماً ترتدي أجساداً جديدة والاستكبار يجد بيوتاً جديدة.... لذلك،
التخلي عن الجسد ليس تخلّي.. التخلّي عن الفكر هو التخلي الحقيقي والتجلي، وفي
التخلي عن الفكر يسكن السلام لأن الحرية من الفكر هي الحرية الحقيقية".
بقي فريد صامتاً بضعة دقائق... لم يعرف ماذا سيفعل وسأل: "لكن كيف يمكن التخلّي عن
الفكر؟"
ربما أنتم تسألون أيضاً نفس السؤال؟ ...أي شخص يبحث عن السلام يواجه هذه المشكلة
الأساسية... أي شخص يبحث عن الحقيقة والتحرر لديه هذا التوق والفضول.....
الفكر ذاته هو العقبة الكبرى... الفكر ذاته هو القلق والأرق...
ما هو هذا الفكر؟
أليست الرغبة بأن تكون شيئاً ما هي الفكر ذاته؟
رجاء ولو للحظة واحدة اخرج من سباتك وشاهد هذه الحقيقة...
أليست الرغبة بأن تكون شيئاً ما، السباق المحموم والمنافسة والعطش والشوق هو الفكر
ذاته؟
إذا لم يكن هناك رغبة عارمة لتصبح شيئاً ما، فأين هو الفكر عندها؟
حتى ولو للحظة واحدة، أنا هنا كما أنا.. وليس عندي أي رغبة لأصبح شيئاً غير ذاتي،
فأين هو الفكر؟
وإذا كان هذا حقيقياً، فكيف يمكن للفكر ذاته أن يبحث عن السلام والحقيقة؟
الفكر بنفسه يبحث عن السلام، والرغبة أيضاً تنتمي إليه... إذن من هنا يريد أن يعيش
بسلام؟؟ من هو الذي يريد إيجاد الحقيقة؟؟ من هو الراغب بالتحرر والانطلاق؟؟ أليس هو
الفكر ذاته أيضاً؟؟؟
وإذا كان كل هذا هو الفكر، فما هي الطريقة للتحرر منه؟
في الواقع، لا يمكن تحقيق التخلي عن الفكر بأي محاولة أو مثابرة من الفكر ذاته، لأن
أي محاولة من الفكر في النهاية ستعطي للفكر مزيداً من القوة والطاقة... أي فعل من
الفكر هو بحث ومتابعة للرغبة الفكرية ذاتها... وكنتيجة طبيعية لذلك، أي فعل من
الفكر سيغذي ويقوّي الفكر... لذلك، من المستحيل التحرر من الفكر عبر أفعال الفكر.
طبعاً كيف للفكر أن يكون موتاً للفكر؟!.. في الرغبات الدنيوية يستمر الفكر بالعيش،
وحتى في الرغبات السماوية الأخروية للتحرر يستمر ويستمر... الشيء نفسه موجود في
الثروة، ونفسه موجود في الدين... عندما يكون فاشلاً في الدنيا خائباً ومحبطاً
وضجراً، الفكر ذاته الراغب بالدنيا ومتاعها يبدأ يرغب بالسلام والتوق
للحقيقة....... الفكر لا زال هو هو.. لأن الرغبة بالأساس هي ذاتها هي...
حيثما تكون الرغبة يكون الفكر... الرغبة هي الاستمتاع، وهي أيضاً الزهد
والاستغناء...
من الرغبة تحديداً وُلدت كل أنواع التقشف والزهد في العالم... كل تلك هي ردة فعل ضد
المتعة، وأين هو التحرر بين ردات الفعل؟... مهما كان الفعل الناتج عن رد فعل ضد شيء
ما سيبقى مربوطاً به ومولوداً منه.... إنه مجرد شكل آخر منه لا أكثر.
الاستغناء هو أيضاً استمتاع... الزهد في الدنيا هو أيضاً الدنيا نفسها...
سواء كان الاستماع أم الزهد، الانغماس في الشهوات أم الانعزال وتأدية الصلوات،
الشكل الأصلي للفكر يبقى كما هو، والاهتمام الجوهري للفكر يبقى كما هو في كلا
الحالتين.
حياة الفكر هي الرغبة... العطش لتكون شيئاً ما، للحصول على شيء ما أو الوصول لمكان
ما، هو الأساس الذي يُبنى عليه الفكر.... لذلك ليس هناك سلام في الاستمتاع الدنيوي
ولا في الزهد الديني.
السلام موجود، وفقط موجود عندما يغيب الفكر...
حضور الفكر هو القلق... وغيابه هو السلام...
حيثما يغيب الفكر يظهر الشيء الحقيقي... لكنك ستسأل: "ماذا تقول؟ كيف يمكن لذلك أن
يكون؟"
يا صديقي لا تسأل.. لأن الفكر هو من يسأل.. البحث عن "كيف" ينتمي للفكر... البحث عن
الطرق والوسائل أيضاً من الفكر... البحث لتصبح شيئاً ما هو من الفكر... إنه دوماً
يسأل: كيف كيف كيف؟
لا ..لا تسأل هكذا... لكن راقب ما هي طرق عمل الفكر.. ما هي طرق بنائه وتجميعه
لنفسه؟ ما هي الطرق التي يحسّن نفسه بها ويقوّيها؟
بالتأكيد، طرق الفكر خفية جداً... حاول أن تدركها وتتيقظ تجاهها..
لا تفعل أي شيء.. فقط ابقى يقظاً... كن حذراً وواعياً من أشكاله وأشكاله الثانوية.
افهم الفكر... تعرّف عليه في حالة اكتماله.. كن يقظاً لأفعاله وردات أفعاله،
تعلقاته وتجرّداته، تفضيلاته ومكروهاته...
تذكر هذا كل لحظة انطلاقاً من الآن.. لا تنسى أبداً... دع الانتباه للفكر يكون
شيئاً طبيعياً... وعيوننا الداخلية تنظر وتراقب الفكر تلقائياً.
دون أي توتر أو تركيز... بسلام كامل وانسجام... نتعرف على الفكر أكثر فأكثر..
هذا التعرّف على هذه المعرفة الذاتية هي فقط ما يجلب الثورة الداخلية...
بمحاولة التعرّف على الفكر، سيذبل الفكر ويختفي، لأن المعرفة والفهم والإدراك ليست
رغبات... إنها ليست سباقاً لتكون أو لا تكون شيئاً ما.... إنها مجرد يقظة تجاه شيء
موجود ويحدث ببساطة.
الرغبة دوماً ما تكون تجاه المستقبل، المعرفة دوماً ما تكون تجاه اللحظة الحاضرة
لذلك، وصول المعرفة الحقيقية هو وداع للرغبة.... معرفة الفكر ذاتها هي التحرر من
الفكر
لنتذكر أن هذه ليست حرية فكرية، بل حرية من الفكر ذاته
وفي هذا النور المركز من الحضور والتحرر التام يمكن معرفة واختبار الألوهية
أضيفت في:6-6-2014... زاويــة التـأمـــل> رسائل من نور .... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع
|