التحضيرات لعيش الحقيقة والحق
أتى
إليّ رجل شاب منذ فترة... قال لي أنه يريد أن يكون معي وهو مستعد لترك عمله
والاستغناء عن الدنيا بكاملها.. وقال أنه قريباً جداً بعد أن يستعدّ من كل النواحي
يريد أن يصبح من أهل الحق ويعيش البساطة والتديّن... كان سعيداً جداً لأن تحضيراته
كانت ستكتمل قريباً.
عندما سمعته بدأت أضحك وقلت له: "لقد سمعتُ عن تحضيرات للعيش في الدنيا... فما هي
هذه التحضيرات لعيش الحقيقة والحق داخلنا والاتصال بالفطرة والألوهية الكونية
الأقرب من حبل الوريد؟.. هل من الضروري إجراء التحضيرات والخطط حتى لعيش الفطرة؟!
..وهل الاستغناء المخطط جيداً عن الدنيا يمكن أن يكون اسغناءً على الإطلاق؟ أليس
هذا أيضاً امتداداً للفكر الدنيوي ذاته؟
أهل الدنيا غير أهل الآخرة... ولا يمكن للدنيا والآخرة أن تتعايشا سوية في الفكر
ذاته... الفكر الدنيوي لا يمكن أبداً أن يكون فكراً سماوي... لن يعرف شيئاً عن
التخلّي والتجلّي... الانتقال من الدنيا إلى جنة الفطرة لا يمكن أن يحدث دون ثورة
أساسية في الفكر.. تلك الثورة الأساسية هي ذاتها الاستغناء عن الدنيا... الفناء
لأجل اللقاء بالبقاء... والانتماء إلى أهل الحق ليس تغييراً في الثياب ولا تغييراً
في الاسم ولا تغييراً في مكان الإقامة... هذه تغييرات في الظاهر والمظاهر.
عيش الحق هو تغيير شامل للفكر والنفس.... وفي هذه الثورة لن تعمل نفس الطرق التي
تعمل بنجاح في الدنيا... قواعد الحساب الدنيوية ليست دون فائدة فحسب، بل ستكون عقبة
أمام تلك الثورة... مثلما قواعد الحلم لا تعمل عندما تكون مستيقظاً، كذلك حقائق
الدنيا لا تبقى حقائق في عالم الحق... الفطرة الإلهية داخلنا ليست إلا استيقاظاً من
الحلم الدنيوي".
توقفتُ عن الكلام ونظرت إلى ذلك الشاب... ظهر أنه يتألم نوعاً ما.. ربما صدمته مثل
عادتي!.. ربما حطمتُ كل تحضيراته وقد أتى إليّ يحمل كثيراً من التوقعات.
دون قول أي شيء، نهض يريد العودة من حيث أتى... فقلت له: "انتظر واسمع هذه القصة
الصغيرة... كان هناك شيخ زاهد متعبّد اسمه فريد... أتى إليه رجل في منتصف الليل
وقال: "يا شيخي الجليل، لقد أخذتُ عهداً ووعداً وقسماً بأنني سأستغني عن كل متع هذه
الدنيا الفانية... لقد عزمتُ على تحطيم كل القيود التي تربطني بالدنيا".
لو أنني كنتُ مكان الشيخ لقلت: "آه أيها الأحمق!.. إن الذي يُقسم هو رجل ضعيف،
والذي يقرر الاستغناء لن يفعل ذلك أبداً... وحتى لو قام بذلك، سوف يستغني عن
الاستغناء أيضاً بسرعة!... الانتماء إلى أهل الآخرة والحق ليس قراراً أو تصميماً من
الفكر الجاهل، بل إنه الخيال الطبيعي لحضور المعرفة داخلنا".
لكن الشيخ فريد قال للرجل: "حسناً ما فكرتَ... صحيح.."
فرح الرجل كثيراً وغادر... ثم عاد بعد بضعة أيام وقال: "أنا في هذه اللحظة أحضّر
حصيراً وثوباً مناسباً لأصير شحاذاً... حالما أجمع أشيائي سأصبح شحاذاً متسولاً".
الآن حتى الشيخ فريد المهذب اللطيف لم يستطع قول حسناً ما فكرت.... قال له: "يا
صديقي، إن المرء يصبح شحاذاً أو زاهداً فقط لأجل الاستغناء عن الممتلكات، وأنت قلق
الآن بتجميع ممتلكات جديدة لكنها مثل القديمة... اذهب... ارجع إلى عالمك ودنياك...
لستَ قادراً بعد على عيش الحق والانضمام لأهل الحق".
أضيفت في:17-8-2014... زاويــة التـأمـــل> رسائل من نور .... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع
|