موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

قصة المعلم وحيد والمعلم فريد

قبل أن يموت المعلم وحيد، جاء المعلم فريد ليزوره وسأله:

"هل تريد أن أساعدك وأرشدك؟"

أجاب وحيد: "لقد أتيتُ وحيداً إلى الدنيا، وسأرحل وحيداً..

فما هي المساعدة التي يمكنك تقديمها لي؟"

قال فريد: "إذا كنتَ تعتقد أنك فعلاً أتيت وسوف ترحل،

إذا كنتَ تعتقد أنك فعلاً تأتي وترحل من هذه الدنيا، فهذا هو الجهل والوهم عندك...

دعني أدلّك على الطريق الذي ليس فيه قدوم ولا رحيل".

لقد أظهر المعلم فريد من خلال كلماته الطريقَ بوضوح كبير، لذلك ابتسم وحيد،

دون أن يقول أي كلمة أومأ برأسه وانتقل.

 

هذه القصة الجميلة جوهرة من الجواهر نتشارك اليوم بفهم أعماقها... وستساعدك للدخول في أسرار الوعي والحياة.

أولاً، بالنسبة للشخص الباحث عن الحقيقة حتى الموت هو فرصة ومناسبة للتعلّم..

بالنسبة للشخص الذي لا يبحث، حتى الحياة ليست فرصة للتعلم!

يعيش معظم الناس دون تعلّم أي شيء طوال حياتهم... يسيرون ويجتازون الحياة دون حصولهم على ذرة من النضج... يظلّون شبه نائمين.. فعلاً حال الأكثرية مثل الشخص الذي يسير وهو نائم أو سكران.. لا يعرف ماذا يفعل، ولا يعرف لماذا يفعل.. لا يعرف من أين قد أتى ولا إلى أين هو ذاهب.

الناس مثل قطع الخشب الطافية... دائماً تحت رحمة النهر والرياح المتقلبة.. حياتهم عَرَضيّة مثل حادث عرضي يحدث بالصدفة.

 

ملايين الناس يعيشون حياةً عرَضية دون جوهر ولا معنى.. وما لم تُمسك بزمام حياتك وتبدأ بتغييرها من عَرَضيّة إلى أرضية واعية وجودية، فلن يكون هناك أي تحويل أصيل.

هذا هو معنى إتباع طريق الحق الجديد والعتيق.. إنه بذل الجهد لتغيير الحياة العرضيّة إلى حياة وجودية مع حَمل النيّة.. محاولة لتغيير الحياة اللاواعية إلى حياة واعية... بذل الجهد وجهاد النفس للاستيقاظ.

 

عندها تصبح الحياة مدرسة نتعلم منها وكذلك الموت..

يستمر الشخص بالتعلم... كل لحظة وكل حالة تأتي كهدية رائعة..

نعم، حتى المعاناة أو الألم هو ابتلاء وهو نعمة وهدية من الله، لكن فقط بالنسبة لأولئك الذين يعرفون كيف يتعلمون وكيف يستقبلون الهدية والهداية.

 

في العادة، حتى النّعم ليست هدايا بالنسبة لك لأنك لا تعرف كيف تستقبلها وتتلقاها وتتشرّبها لكي تضيفها إلى نور روحك... ولأنك تعيش حياتك بشكل آلي مثل الرجل الآلي.

عاد رجلٌ إلى بيته في وقت متأخر من الليل.. وبدأ يعطي الأعذار لزوجته ويشرح سبب تأخره.

لقد شرب الرجل المسكين زيادة من الخمر، وقال لزوجته أنه ركب في الباص الخاطئ.

قالت الزوجة: "نعم، من الواضح والسهل أن أفهم أنك سكران من مظهرك ووجهك... لكن كيف عرفتَ أنك في الباص الخاطئ؟"

أجاب الزوج: "كان الأمر غريباً.. وقفتُ في إحدى زوايا الباص لمدة ساعتين.. لكن ما أقنعني في النهاية أنه باص خاطئ هو أن الناس استمروا بالصعود وطلب الهمبرغر والقهوة"

لم يكن ذلك حتى باص!!

الحياة التي تعيشها ليست حتى حياة ولا يمكن أن تكون حياة... كيف يمكن أن تكون حيّاً إذا لم يكن هناك نورٌ في حياتك؟ كيف يمكن أن تكون حياً إذا لم يملأ الحب زوايا وجدانك؟ كيف يمكن أن تكون حياً إذا كنت رجلاً آلياً؟؟

 

فقط بظهور الوعي تبدأ وتظهر الحياة... ليس بالولادة بل بالوعي..

فقط المتأمل هو الذي يبدأ يعيش فعلاً...

عامة الناس يخدعون أنفسهم ويعتقدون أنهم أحياء..

قد يكونوا يفعلون ألف شيء وشيء... يستمرون بالعمل والفعل حتى آخر لحظة من حياتهم.. يستمرون بتجميع الثروة والسلطة وتحقيق هذا الطموح وذلك الحلم... يستمرون ويستمرون... لكن المحصلة النهائية لحياتهم معدومة.

 

كان هناك صحافي من جريدة عربية مشهورة، يجري مقابلة مع بطل عربي كبير في الفروسية وعمره ستون سنة... قال له: "أنت فعلاً رجل مميز وقوي... كيف قدرتَ على الفوز في بطولة الفروسية في هذا العمر الكبير؟!"

قال البطل: "هذا لا شيء مقارنة بوالدي العظيم.. إنه لا يزال يلعب مهاجماً في فريق كرة القدم ويحقق الأهداف وعمره 86 سنة".

قال الصحافي: "أوووه هذا مذهل! أرغب بمقابلة والدك أيضاً".

قال البطل: "والدي مشغول الآن.. إنه مسافر إلى جزر هاواي ليحضر حفل زفاف جدي الملك الأعظم.. سيتزوج غداً وعمره 114 سنة".

قال الصحافي: "عائلتك مميزة جداً ونادرة! أنت بطل بالفروسية وعمرك 60.. والدك بطل كرة قدم وعمره 86... والآن جدك يريد الزواج في عمر 114 سنة!"

أجاب البطل: "انتبه ولا تخطئ الفهم... جدي لا يريد الزواج، لكن زوجاته العشرين أرغموه على الزواج لأنه يصاحب تلك الفتاة الصغيرة، لذلك عليه أن يتزوج ويتوقف عن المراهقة".

 

تستمر حياة الناس بهذه الطريقة إلى نهايتها... هذه ليست حياة حقيقية... أنت مجرد ضحية، ضحية اللاوعي، ضحية غرائزك اللاواعية، ضحية الطبيعة والوظائف الجسدية الهرمونية.

هذا هو أكبر القيود.. تحررك من كل هذا اللاوعي هو التحرر الأسمى..

تحررك من قيود كيمياء جسدك، من قيود البرنامج الذي وضعته الطبيعة في خلايا دماغك وجسدك، تحررك من كل هذا اللاوعي عندك ووقوفك لوحدك واعتمادك على نفسك... أن تكون نوراً من الوعي المشتعل... هذه هي بداية الحياة الحقيقية.

لا تقم بعدّ سنوات حياتك منذ ولادتك، بل فقط منذ اللحظة التي تبدأ فيها بالحياة بوعي ويقظة تامة وتأمل مستمر.

عندما يحمل كل فعل من أفعالك طعماً من الوعي، عندها أنت تقترب من البيت ومن الحق.. وإلا فأنت ترحل وتبتعد في بحور من الظلمة.

 

والحياة تعطيك كثيراً من الفرص للاستيقاظ...    

لكنك بدلاً من الاستيقاظ واستغلال تلك الفرص، تبدأ بالبحث عن مخدرات أقوى وأعمق لتغرقك في اللاوعي... عندما تأتي المعاناة فهي فرصة جيدة للاستيقاظ، لكنك تبدأ تبحث عن حبة المنوّم... هذه الحبة قد تكون من الخمر أو الجنس أو المخدرات... أو قد تكون المال والسلطة والسياسة، أو تكون أي شيء...

كل شيء يبقيك غير واعي هو حبة مخدر.

كل شيء يبقيك مشغولاً بأشياء غير أساسية هو مخدر..

المخدرات والأدوية المنوّمة لا تباع فقط في الصيدلية، بل هي موجودة في كل مكان... كل المدارس والمعاهد والجامعات تبيع المخدرات لأنها تصنع الطموح، والطموح يُبقي الناس دون وعي... الطموح يبقيهم راكضين... يطاردون الخيالات والأوهام والأحلام.

القادة ورجال السياسة هم أكبر تجار المخدرات: يستمرون بصنع الشهوة للسلطة عندك... الجوع والطمع للسلطة والتحكم بالآخرين، ويستمر هذا بإشغال تفكيرك.

 

الطمع والطموح والمنافسة تشبه تماماً شرب الخمر... لا بل هي خمرٌ أعمق التأثير... الخمر العادي يمكن منعه في بعض الأماكن، لكن هذا الخمر موجود بكثرة في كل حدب وصوب.. يُقدّمه إليك أهلك ومجتمعك ورجال الدين والبروفسورات والسياسيين.. المجتمع بكامله يعيش في هذه الحالة المخدّرة.

 

إذا كان عندك شيء تركض خلفه ستشعر بالراحة... في اللحظة التي لا يبقى عندك شيء تركض خلفه، ستشعر بالضياع، وتقوم فوراً بصُنع انشغال جديد.

كل الأنبياء والحكماء عبر التاريخ قالوا أن قدوم المعاناة هي بلاء وإشارة من الله... إشارة بأن الوقت قد حان  للاستيقاظ.. لكنك تُغرق هذه المعاناة وتطفئها بالمخدرات.

تموت زوجتك مثلاً أو تهجرك حبيبتك... فتبدأ بالإكثار من شرب المنبهات أو الخمر أو التدخين أو القمار... لقد كان أمامك فرصة لكي ترى أن هذه الحياة مؤقتة لا يمكن أن تستمر للأبد... الحياة مثل قارب ورقي يمكن أن يغرق في أي لحظة... أي نسمة هواء خفيفة ستنهي الحياة... استيقظ! زوجتك ميتة، وأنت أيضاً ستموت لأنك واقف في نفس الطابور، والدّور يقترب منك بالتدريج وتقترب منك نافذة الموت.

لكنك لا تستيقظ.. بل تبدأ بالبحث عن زوجة جديدة...

يفلس حسابك في البنك لكنك لا تستيقظ..

تهزم وتخسر في إحدى المعارك لكنك لا تستيقظ...

بل تبدأ بالبحث بمزيد من الحماس والثأر!

ذهبت امرأة إلى عيادة طبية تخصصية مشتركة فيها عشرة أطباء... بعد مضيّ عشرين دقيقة في مكتب أحد الأطباء، خرجت تصرخ مذعورة إلى القاعة العامة!

بعد أن فهم طبيب آخر القصة من المريضة، قال للطبيب الأول: "ما هي الفكرة من إخبار المريضة بأنها حامل؟ إنها ليست حامل، وكدتَ أن تقتلها من الرعب!"

أجاب الأول: "أعرف.. أعرف.. لكنني شفيتها من التأتأة أليس كذلك؟"

 

إذا أصغيتَ وراقبتَ جيداً، سترى أن كل معاناة تحدث في حياتك هي نعمة خفية متنكّرة.. يمكنها أن تشفيك من كل أنواع التأتأة... إنها صدمة، وأنت تحتاج لصدمات! لأنك أصبحت تحمل عدة دروع واقية حولك وتلعب دور ممتص للصدمات... لا بد من تحطيمها.

وما لم تتحطم الدروع ستبقى تعيش في الحلم..

وتذكر، في الحلم حتى الحلم يبدو حقيقياً.... وأنت تعرف هذا جيداً لأنك تحلم كل ليلة.. وفي الحلم ترى أن الحلم واقع حقيقي تماماً... ويمكنك دوماً إيجاد الأسباب والمنطق الذي يؤيد أحلامك.. حتى عندما ينقطع الحلم يمكنك إيجاد الأسباب لتأييد الحلم مع أنه كان وهماً مطلقاً.

استيقظ رجلٌ في الصباح وهو مصدوم... أيقظ زوجته وقال لها: "يا عزيزتي، لقد رأيتُ حلماً رهيباً هذه الليلة... حلمتُ أنني آكل عشرة علب كبيرة من الراحة، وفوق كل هذا لا يمكنني إيجاد وسادتي في أي مكان!"

 

حتى عندما تستيقظ قد تجد بعض التأييد... ستنظر حولك وتستطيع دوماَ إيجاد التأييد... لأن فكرك ماكر جداً جداً.. فكرك يلعب بك وعليك ويصنع الحيل والخدع، ويمكنه أن يظهر منطقياً جداً ومُقنعاً جداً.

رجع رجل فرنسي إلى بيته ليلاً، وتفاجأ عندما رأى ابنه ينام في السرير مع جدته... طبعاً هذا يحدث فقط في فرنسا!

قال الرجل: "يا ابني.. كيف يمكنك أن تفعل هذا؟"

أجاب الابن: "هذا أمر منطقي.. بما أنك أنت تنام مع والدتي، فأنا أنام مع والدتك... أين المشكلة؟"

يمكن للفكر أن يُثبت صحة أي شيء بالمنطق وحتى الأشياء التافهة... فانتبه.. فكرك كله يعمل لمصلحة أحلامك... فكرك هو مصدر الأحلام، لذلك فكرك عنده واجب والتزام بدعم تلك الأحلام.

إذا لم تكن منتبهاً جداً سيتم خداعك وتوريطك وتربيطك بفكرك ذاته مراراً وتكراراً، في نفس الأشياء الغبية التي مررتَ بها عدة مرات، وندمتَ عليها عدة مرات، وقرّرت عدة مرات وأقسمت ألا تكررها من جديد!

لكن الفكر يعود دوماً بمغريات خفية...

 

الفكر هو أعظم بائع ومندوب مبيعات... الفكر مقنع جداً وماهر...

ولأن الفكر يساعد دائماً رغباتك اللاواعية، فالجسد أيضاً يدعم الفكر.

 

إن الجهد اللازم للاستيقاظ صعب وشاق فعلاً.. هذا هو أعظم تحدي يمكن أن يواجه الإنسان طوال حياته... وفقط الإنسان يقدر... فقط الإنسان الشجاع يقدر على مواجهته...

تحدي اليقظة يحتاج لأقصى درجات الشجاعة.. وهو أعظم وأخطر مغامرة..

من الأسهل السفر إلى القمر أو الصعود إلى قمة إيفرست أو اكتشاف أعماق المحيط..

المشكلة الحقيقية تظهر عندما تدخل إلى ذاتك أنت... تظهر عندما تبدأ بالاستيقاظ..

عندها سيكون ماضيك بكامله مع الغفوة وضد الصحوة... سيتعلق ماضيك برقبتك ثقيلاً كالجبال ويشدك للأسفل.. لن يسمح لك بالتحليق في سماء وعيك اللامتناهية الممتدة إلى الأبدية والأبد.

 

..قصة جميلة بين معلمين... أحدهما يموت والآخر يأتي ليودّعه.. لكن ما هذه الطريقة من الوداع!... تم استخدام فرصة الموت.

نعم، فقط الناس الواعيين جداً يمكنهم استخدام الفرصة التي تجلبها لحظة الموت.

عندما ننظر إلى الموت دون وعي، سنجد أنه عدو لنا

وعندما ننظر إلى الموت بوعي، سنجد أنه أعظم صديق صادق

 

عندما تنظر إلى الموت دون وعي، ستجد أنه مجرد تحطيم لكل أحلامك ونماذج حياتك وكل الأبنية التي كنتَ تؤسسها وكل شيء كنتَ تستثمر فيه مالك ووقتك وجهدك... تحطيم عظيم لكل شيء دفعة واحدة.

لكنك عندما تنظر إلى الموت بوعي، ستجد أنه بداية حياة جديدة وأنه باب إلى الألوهية والحضرة الإلهية التي نولد منها وإليها نعود.. مثل القطرة والمحيط.

 

المعلم وحيد يموت، والمعلم فريد يسأله: "هل تريد أن أساعدك وأرشدك؟"... إنه يقول هنا بأن الموت هو بداية وليس نهاية... هل تريد أي مساعدة؟ هل تريد دليل؟ أنت ذاهب لتتعلم طريقة جديدة من الوجود، ورؤية جديدة دون حدود... أنت تدخل إلى بعد جديد ممدود.. فهل تريد أن أرشدك؟"

أجاب وحيد: "لقد أتيتُ وحيداً إلى الدنيا، وسأرحل وحيداً.. فما هي المساعدة التي يمكنك تقديمها لي؟"

نعم إننا نأتي فراداً ونرحل فراداً، وبين هاتين الحالتين من الفردية نصنع كل أحلام التلاقي، العلاقات، الحب، العائلة، الأصدقاء، النوادي، الجماعات، المجتمعات، الأمم، الأديان، والمنظمات... وننسى أننا فراداً نأتي وفراداً نرحل.

 

الفردية هي طبيعتنا الأساسية والأسمى.. لكن بين حالتيّ الفردية كم نصنع من الأحلام!.. أحدهم يصبح زوجاً أو زوجة، أباً أو أماً... وأحدهم يجمع المال والسلطة والشهرة والاحترام، مع أنه يعرف تماماً أنه يأتي خاوي اليدين ويرحل أيضاً خاوي اليدين... لن تستطيع أن تأخذ معك حتى حبة رمل واحدة من كل الدنيا، ورغم ذلك يستمر الشخص بالتجميع والتكديس، وتزداد تعلقاته وتقوى جذوره في الدنيا التي علينا حتماً الرحيل منها.. فهي دار ممر إلى دار مقر..

استخدم هذه الدنيا كممر.. هذه قافلة تسير فلا تجعل منها منزلاً لك..

سألوا أحد المعلمين الكبار: "لماذا يا شيخ لا تبني لك منزلاً؟ عندك كثير من الطلاب القادرين على بناء قصور لأجلك"... أجابهم الشيخ: "عندما أتيت إلى هذه الدنيا، قالوا لي أنني لن أعيش كثيراً.. ربما سبعين أو ثمانين سنة.. فقلتُ لنفسي أن الحياة قصيرة لا تستحق أن أبني منزلاً فيها".

 

عليك أن تستخدم الدنيا طبعاً، لكن لا تدعها تستخدمك..

ليس هناك فائدة في امتلاك أي شيء، لأنك حالما تبدأ بامتلاك شيء ما سيبدأ هو بامتلاكك... وكلما امتلكتَ أكثر، امتلكتك الأشياء أكثر.

استخدم الحياة! لكن تذكر أن تراقب وتتذكر أن الموت قادم وهو دائماً يسير على طريقه إليك... في أي لحظة قد يطرق الباب وعليك أن تترك كل شيء كما هو... ودائماً عليك أن ترحل في وسط ومنتصف ما تفعل... ولا يقدر المرء على إتمام أي شيء في الحياة.

 

أجاب المعلم وحيد بشكل رائع: "لقد أتيتُ وحيداً إلى الدنيا، وسأرحل وحيداً.. فما هي المساعدة التي يمكنك تقديمها لي؟ كيف يمكنك أن تساعدني في لحظة الموت؟... ربما في الحياة، قد نحصل على وهم أن أحداً يساعدنا أو أننا نساعد أحداً ما، لكن كيف في حالة الموت؟"

إنه يقول حقيقة عظيمة، لكن هناك حقائق وحقائق، وهناك حقائق أعظم.

أجاب المعلم فريد بحقيقة أعلى منها..

تذكر هذا: الخلاف لا يظهر بين المزيف والحقيقي..

الخلاف الحقيقي يظهر بين الحقيقة الأدنى والحقيقة الأعلى.

المزيف هو مزيف، وماذا يقدر أن يفعل؟ بماذا يمكنه إيذاء الحقيقي؟

المشكلة ليست أبداً خياراً بين المزيف والحقيقي..

المشكلة تنشأ دوماً بين حقيقة أدنى وحقيقة أعلى.

 

إن ما قاله وحيد هو حقيقة عظيمة.. أننا نأتي فراداً ونرحل فراداً.. لكن لا يزال هناك حقيقة أعلى.

أجاب فريد: "إذا كنتَ تعتقد أنك فعلاً تأتي وترحل من هذه الدنيا، فهذا هو الجهل والوهم عندك".

من يأتي؟ ومن يرحل؟ كل شيء يشيء كما هو...

القدوم والرحيل هي أحلام أيضاً..

مثلاً، تغطّ في النوم ليلاً ويظهر حلم ما... في الصباح يختفي الحلم.. هل تعتقد أنك ذهبتَ إلى مكان ما ثم رجعت؟ وتجد نفسك في نفس الغرفة ونفس السرير وكل تلك الأحلام؟!

ربما تكون سافرتَ إلى أماكن بعيدة.. ربما زرتَ القمر والكواكب والنجوم.. لكنك في الصباح عندما تستيقظ لن تستيقظ في أحد النجوم! ستستيقظ في نفس المكان الذي نمتَ فيه.

والحياة هي حلم!

نحن دائماً موجودون حيثما نكون...

نحن دائماً نكون على ما نكون في هذا الكون...

لم ننتقل ولا حتى للحظة واحدة.. ولم نتحرك ولا حتى خطوة واحدة عن طبيعتنا الحقيقية الكونية.

هذه هي أعلى كلمة تعبّر عن الحقيقة الأسمى..

 

نعم كان وحيد يقول شيئاً هاماً جداً... فراداً نأتي وفراداً نرحل.. لكن فريد يقول شيئاً أهم بكثير: "أي قدوم؟ وأي رحيل؟ أنت تقول شيئاً تافهاً! من يأتي؟ ومن يرحل؟؟"

الأمواج تظهر في المحيط، ثم تختفي في المحيط.

تظهر الأشكال وتختفي، وتبقى الحقيقة كما هي...

كل التغييرات تحدث في الظاهر.. أما في العمق وفي الجوهر لا يتغير أي شيء أبداً.

الزمن هو ظاهرة محيطية ظاهرية، في المركز ليس هناك زمن ولا تغيير ولا حركة.. كل شيء مستمر وأبدي.

 

فقط شاهد النقطة المقصودة في هذا الحوار في لحظة موت المعلم وحيد... هذه ليست أشياء تتم مناقشتها في لحظات الموت.

في لحظات الموت، يحاول الناس مساعدة الشخص ومواساته: "اطمئن أنت لا تموت.. من قال أنك ستموت؟ لا تصدق أي طبيب... أنت ستتعافى وتعيش حياة طويلة وجميلة".

حتى عندما يعرف الناس ويؤكد لهم الطبيب أن جسد المريض مدمر ومنتهي تماماَ ولا يمكن فعل شيء.. حتى عندها تستمر العائلة بالتظاهر بأنك لن تموت... تستمر العائلة بمساعدة الحلم على البقاء أكثر قليلاً، وتستمر بالأمل وتوقع حدوث معجزة ما تنقذ حياة المريض.

 

هذا الحوار بين المعلمين جميل جداً..

الموت حق... عندما يموت شخص ما، من الأفضل جعله مدركاً بأن الموت قد أتى... في الواقع، من الأفضل جعل كل شخص مدركاً للموت، سواء أتى اليوم أو في يوم آخر.. سواء أتى غداً أو بعد سنة أو عشرين سنة لا فرق.. الموت قادم دون شك... هذا هو الشيء الأكيد عن الموت بأنه قادم... وفي الحياة كلها ليس هناك إلا شيء وحيد أكيد وهو الموت.

لذلك من الأفضل الحديث عن الموت منذ البداية الباكرة عند الطفل.

في الحضارات القديمة، كان الناس يجعلون كل طفل واعياً للموت... يجب تأسيس وعيك على معرفة الموت وقبوله منذ البداية.

 

الشخص المدرك لوجود الموت، سيكون مدركاً حتماً لوجود الحياة..

والشخص الغير مدرك للموت، سيبقى غير مدرك للحياة...

لأن الحياة والموت وجهان لعملة واحدة.

 

قال فريد: "إذا كنتَ تعتقد..."

لاحظ وتذكر.. أنه يستخدم كلمة (إذا).. لأن فريد يعرف من هو وحيد.. يقدر أن برى عمق أعماقه لأنه شفاف بالنسبة له... ويعرف أنه قد وصل واتصل.

ربما فريد يقوم فقط بتحريض وحيد على قول شيء جميل من الحقيقة... ربما يستفزه بحيلة صغيرة ويلعب معه... لذلك يقول: "إذا كنتَ تعتقد أنك فعلاً تأتي وترحل، فهذا هو الوهم عندك.. دعني أدلّك على الطريق الذي ليس فيه قدوم ولا رحيل".

ما هو الطريق الذي ليس فيه قدوم ولا رحيل؟

نعم.. هناك مكان موجود داخلك وهو بيتك الأبدي.. حيث لا يحدث أي شيء، ولا يتغير أي شيء.. لا ولادة ولا موت.. لا قدوم ولا رحيل.. لا ظهور ولا اختفاء... كل شيء يكون دائماً كما هو.

كلمات المعلم فريد أوضحت الطريق تماماً... ابتسم المعلم وجيد، أومأ برأسه وانتقل..

لا يمكن قول ذلك بطريقة أجمل... لذلك لم يقل وحيد أي كلمة إضافية.. لكنه ابتسم، لأن الشيء الذي لا يمكن قوله بالكلام يمكن قوله بالبسمة أو بالإيماءة.. لا يمكن قوله لكن يمكن إظهاره.

أظهر وحيد جوابه على وجهه... أدرك الحقيقة، أومأ برأسه قائلاً: "صحيح وحقيقي تماماً... إذاً أنت أيضاً رجعتَ إلى بيتك".

 

الحوار بين معلمين عارفين هو حوار نادر الحدوث... لأنه في العادة عندما يلتقي معلمان يبقيان صامتان... لا يوجد هناك أي شيء يقال.

لكن عندما يحدث شيء ويتكلم معلمان مستنيران مع بعضهما، يكون الحوار مسرحية عظيمة ولعبة مرحة ومدهشة.... تذكر أن هذا ليس جدلاً أو نقاشاً بل حوار بين الأنوار.

إنهما يستفزان بعضهما لقول الحقيقة بطريقة أفضل وأجمل... وقالها فريد.. ورضي وحيد بشكل تام.

 

ماذا قال فريد؟ ..قال أن الحياة التي نعتقدها حياة ليست حياة، ولم ننظر مطلقاً إلى ما هو موجود حقاً.

أصبحنا مشغولين كثيراً بالوهم، ونستمر بالانشغال بالأوهام حتى نهاية الحياة...

كان هناك رجلٌ مشغول وقلق جداً على حماته الأرملة الكبيرة.. كان عمرها ثمانين سنة وتعيش في بؤس ومعاناة... في إحدى الأمسيات ولكي يجعلها فقط تخرج من البيت، حضّر الرجل موعداً غرامياً لحماته مع رجل عجوز عمره 85 سنة.

رجعت المرأة من الموعد في وقت متأخر من الليل وهي منزعجة قليلاً..

سألها الرجل: "ماذا حدث؟"

أجابت: "هل أنت تمزح معي؟ كان عليّ أن أضربه على وجهه ثلاث مرات!"

قال الرجل: "هل تقصدين أنه تحمّس وثار ورجع شاباً؟!"

أجابت: "لا.. اعتقدتُ أنه ميت!!"

 

حتى إلى تلك اللحظات من العمر يستمر الناس بالمواعيد الغرامية وأعياد الزواج والحب... لو كان هناك أشباح فهذه هي تماماً تفعل ما تفعلون!... وتستمر نفس الأوهام حياةً بعد حياة.

 

سمعتُ عن شخصين عاشقين لبعضهما... عاشقين لدرجة الجنون، وكانا من العلماء في الروحانية والطاقة والإيزوطيريك ولا يشبعان من تجميع العلوم والشهادات... في إحدى الأيام، بينما كانا يتحدثان عن الموت وغيره من القضايا العميقة، قررا أنه في حال مات واحدٌ منهما فعليه أن يتخاطب مع الآخر في اليوم الثلاثين بعد موته، وعلى الآخر أن يكون مفتوحاً متلقياً ومستعداً في ذلك اليوم وفي وقت محدد.

عندما حدث ذلك، مات الرجل في حادث سيارة... وكانت المرأة في شوق هائل وانتظار حار... أتى اليوم الثلاثين وحان الوقت المحدد... أغلقت كل الأبواب وأطفأت الإضاءة وقالت: "حبيبي طوني هل أنت هنا؟"

قالت ذلك وهي مترددة.. نصف مصدقة ونصف غير مصدقة... لكنها لم تصدق عندما سمعت صوت طوني يقول: "نعم يا حبيبتي... أنا هنا!"

سألت المرأة: "كيف حالك؟ هل أنت سعيد هناك؟"

أجاب: "نعم أنا سعيد جداً جداً... انظري إلى هذه البقرة.. بقرة جميلة ورشيقة جداً"

قالت المرأة: "بقرة؟ عن ماذا تتحدث؟"

أجاب: "نعم.. إنها بقرة جميلة فعلاً عندها صدر كبير وجسد نحيل وسيقان رشيقة متناسقة"

قالت المرأة: "هل جننت؟! أنا أموت شوقاً لسماع أي خبر عنك وعن الجنة الأبدية التي تعيش فيها وأنت تتحدث الآن عن هذه البقرة الحمقاء؟"

أجاب: "أي جنة أبدية تتكلمين عنها؟ لقد أصبحتُ ثوراً في مرعى القرية المجاورة!"

 

وتستمر الحلقة وتتكرر... نفس الغباء جيلاً بعد جيل.. جهلاً بعد جهل

ما لم تصبح واعياً ستستمر بالحركة في هذه الحلقة المفرغة..

في هذه العجلة الدائرة.. التي تدور وتدور وتكرر نفسها

إنه تكرار ممل جداً ومن الغباء الشديد أن نستمر فيها.

لكن لكي تصبح واعياً ستحتاج جهداً عظيماً

لكي تصبح واعياً عليك أن تخوض صراعاً طويلاً مع نومك وغفلتك ومع كل حالاتك اللاواعية

عليك أن تكافح لتشق طريقك بين الحشود المنوّمة منذ عصور ودهور

هذا الكفاح صعب عسير، والطريق جبلي خطير...

لكن الرحلة الطويلة تبدأ بخطوة.. من الغفوة إلى الصحوة

أضيفت في:9-2-2015... زاويــة التـأمـــل> تأمل ساعة
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد