موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

أسرار الوصول إلى أنوار الواقع الحقيقي

 

تقول الأسرار لصفوة طالبي الأنوار:

 

نور القمر ينعكس في النهر..

والرياح تهب بين أشجار الصنوبر..

في برودة المساء، في عمق منتصف الليل، لماذا كل ذلك؟

عندما نصل إلى الواقع الحقيقي، تتم مشاهدة أنه ليس شخصي وليس غير شخصي..

ليس هناك خطيئة، ليس هناك جنة، لا ربح ولا خسارة..

هذه التجاوزية الأسمى، لا تدور أسئلة حولها!

مَن هو عديم التفكير؟ مَن هو عديم الولادة والموت؟

 

 

...الإنسان هو حماسة لا فائدة منها.. شغف دون جدوى.. هكذا يقول الفلاسفة أمثال جان بول سارتر.. لماذا الإنسان حماسة لا فائدة منها؟ يقول ذلك لأنه لا يوجد معنى في الحياة.

يبحث الإنسان ثم يبحث، فلا يجد ولا يربح إلا الإحباط.. الإنسان مكتوب عليه الفشل لأن المعنى للحياة لا يوجد بتلك الطريقة.

مقولة سارتر مليئة باليأس والمعاناة والأسى.. إذا لم يكن هناك معنى، طبعاً سيستنتج أن الإنسان هو حماسة بلا فائدة.. يتواجد لأجل لا شيء، يوجد كحادث أو مصادفة ويستمر بشَغل نفسه بأشياء غير مفيدة، لكن النهاية الأسمى ليست إلا الفراغ.. لا يتم ربح شيء.. يأتي الإنسان فارغاً ويرحل فارغاً.. كل تلك الجهود العظيمة تضيع دون جدوى.

 

أسطورة سيسيفوس من الأساطير الإغريقية لها معنى عميق.. تقول أن الآلهة كانوا غاضبين على سيسيفوس.. قاموا بإدانته لأنه حمل صخرة ضخمة إلى أعلى الجبل.. مهمة صعبة وشبه مستحيلة، لكنه أنجزها وحمل الصخرة إلى القمة.. بعدها كانت النتيجة النهائية أن الصخرة لا يمكنها البقاء في القمة.. بسبب وزنها الكبير تبدأ تلقائياً بالوقوع مجدداً إلى الوادي.

وحدث ذلك مراراً وتكراراً: يحمل سيسيفوس الصخرة، يقوم بألف تحضير ويتصارع مع الجبال لكن النتيجة النهائية كانت عودة الصخرة إلى الوادي... فيعود سيسيفوس إلى الوادي ويبدأ العمل مجدداً.

هذه الأسطورة هي رمز عن حياة الإنسان... منذ الولادة وحتى الموت يستمر بالصراع والكفاح، وهو كفاح صعب مثل صعود الجبال حاملاً صخرة... بعدها عندما تصل، تبدأ الصخرة بالتدحرج هابطة إلى الوادي.. النهاية هي الموت وهو ينتظرك، والموت يدمّر كل ما قمتَ به ويأخذ منك كل ما صنعته.. ثم مجدداً ولادة أخرى.. وتبدأ نفس السخافة مرةً أخرى.. تكرار ودوران مثل دوران الخنفساء في الصحن!

 

إذا نظرتَ إلى حياة الإنسان، وجان سارتر عنده نظرة محددة: الإنسان هو حماسة لا فائدة منها، بلا معنى، كل الجهود عديمة المغزى.. فلماذا إذن يستمر الإنسان بالعيش؟ ذلك يصبح السؤال الأهم التالي: لماذا يستمر الإنسان بالعيش؟ ربما فقط بسبب الجُبن؟ لأنه لا يقدر أن ينتحر؟ لأنه خائف؟

 

فيلسوف وجودي آخر هو ألبرت كاموس، قال أن المشكلة الوحيدة في الحياة هي فقط الانتحار، كل شيء سواه عديم المعنى.. بالطبع، إذا كان الإنسان حماسة بلا فائدة، فالانتحار يصبح السؤال الأكثر أهمية.. وعلى كل شخص مواجهته: لماذا لا أقوم بالانتحار؟ لماذا أستمر بالعيش؟

 

قال فرويد: "حياة البشر هي قضية تحمّل أكثر من أن تكون تمتّع".. عندها لماذا تحمّل الحياة إذا كانت مجرد تحمل؟ عندما يقول فرويد شيئاً ما، فأقواله لها وزنها، لأنه ليس فيلسوفاً، وقد بذل معظم حياته وعمله في البحث ضمن أعماق اللاوعي عند الإنسان.. إنه عالم نفس، لذلك قوله له وزن معين من الأهمية.. ليس مجرد نظرية بل هو ناتج عن الملاحظات والتجارب.. يقول أنه ليس هناك أمل للإنسان، وأن الإنسان لا يقدر أبداً على تحقيق السعادة لأنه ليس هناك إمكانية للمعنى في الحياة.

 

عبر العصور، حاولت كل الأديان وحاول كل الفلاسفة إعطاء الجواب: أن هناك معنى، أن المعنى هو في الله، أو المعنى في الجنة، أو المعنى موجود في مكان ما... قد يختلفون جميعهم حول مكان وجود المعنى، لكنهم يتفقون على شيء واحد: أن المعنى موجود في مكان ما.

لكنهم جميعاً قد فشلوا، كل الفلاسفة وكل الأديان فشلت ولم يتم إيجاد المعنى، وتم تضليل الإنسان أكثر فأكثر... لقد حصل على الأمل في كل جواب وسار مع كل جواب، لكنه مجدداً لم يصل إلى أي شيء وفشلت جميع الأجوبة.

 

بعدها، بدأ الإنسان يفكر بالثورات... إذا فشلت الأديان، وإذا فشل الفلاسفة، إذن دعونا نبحث في مكان آخر: الثورات... ثورة سياسية، ثورة اقتصادية، ثورة صناعية، ثورة علمية..

والآن فشلت جميعها أيضاً.. يبدو أن الإنسان مكتوبٌ عليه الفشل.. هذه هي حالة الإنسان التي تجدها إذا نظرتَ في كل الأسئلة والأجوبة التي سألها عبر العصور.

السؤال عن المعنى هو أقدم الأسئلة، والمعنى لم يتم إيجاده حتى الآن..

تم إعطاء كثير من الأجوبة، وتم وضع كثير من النظريات والفلسفات، لكن كلها سلوان ومواساة.. تعطيك حبة مسكن فحسب.. نعم، يمكنك خداع نفسك لفترة ما، لكن إذا كنت ذكياً كفاية ستصل إلى رؤية عقم كل الأجوبة.. إذا كنت ذكياً كفاية، لن تساعدك تلك المسكنات.. إنها تساعد فقط متوسط الذكاء، تساعد فقط الساذج أو الذي قرر أن يخدع نفسه، الذي يريد التظاهر بأن هناك معنى: معنى في المال، معنى في السلطة، معنى في الاحترام والمكانة الاجتماعية، معنى في الطهارة والحسنات، معنى في الشخصية والأخلاق، معنى في كونك قديساً وشيخاً... لكن إذا كنت ذكياً كفاية، إذا قمتَ بالبحث أعمق فأعمق، عاجلاً أم آجلاً ستصل إلى قاع صخري من انعدام المعنى.

ربما ذلك هو السبب الذي يمنع الناس من البحث كفايةً، فهم خائفون.. هناك شعور لاواعي موجود ويقول: "إذا ذهبنا إلى عمق كافي، فلن نجد شيئاً، لذلك الأفضل عدم الغوص عميقاً.. قم فقط بالسباحة عند السطح".

 

لكن مدارس التأمل الحقيقية نجحت حيث فشل كل البقية.. مثل مدارس الزن في الشرق..

الحكيم بوذا نجح حيث فشل كل الناس.. والزن هو التفتح الأسمى للفهم والرؤية التي حدثت لبوذا منذ 2500 سنة في بودغايا جالساً تحت شجرة.

ما هي الرؤية التي حدثت له؟ ماذا كان اختبار بوذا المميز؟

لم يختبر أي إله ولم يصادف أي شخص أو طيف.. في الواقع، لم يكن هناك أي تجربة "روحية".. لم يشاهد أنواراً عظيمة، ولم يشعر بصعود طاقة الكونداليني في جسده، لم يرَ جنة ذهبية أو حوريات وأنهار خمر.. لم يرَ أي شيء من كل ذلك... فماذا كانت الرؤية التي حدثت؟

هذه الرؤية هي التي أسست مدارس التأمل مثل الزن، يجب فهمها جيداً لأنها أحد أهم الأشياء التي حصلت للوعي البشري... ما هو الشيء الذي توصل بوذا إلى معرفته؟

 

لقد عرف شيئاً واحداً فقط: أنه إذا تم رمي المعنى، فانعدام المعنى يختفي أيضاً.

هذه أعظم رؤية يمكن أن تحدث لإنسان... إذا رمى المعنى، تلقائياً يختفي انعدام المعنى.. لا بد من حدوث ذلك، لأنك كيف تستطيع قول أن "الحياة بلا معنى" إذا لم يكن هناك أي معنى؟؟

إذا لم يكن هناك معنى، عندها انعدام المعنى غير ممكن..

لكي تجعل انعدام المعنى ممكناً، ستحتاج للمعنى في البداية..

إذا قلتَ أن مقولتك بلا معنى، فهذا يعني إمكانية وجود مقولات تحمل المعنى..

إذا كانت كل المقولات بلا معنى، عندها لا يمكنك قول أن أي مقولة بلا معنى: كيف ستقارن؟ وماذا سيكون المقياس؟

رؤية بوذا في ذلك الصباح الباكر جعلته يرمي كل البحث عن المعنى.. فلقد بحث بما فيه الكفاية طوال عدة حيوات، وآخر 12 سنة من هذه الحياة كان يبحث أيضاً.. لقد جرب كل الأجوبة، ووجدها جميعها ناقصة.

في ذلك الصباح الباكر، عندما كانت آخر نجمة تختفي في ضوء السماء، اختفى أيضاً شيء ما في سمائه الداخلية..

توصّل إلى رؤية عميقة، شاهد أن: "الحياة تبدو بلا معنى لأنني أنا أبحث عن المعنى... الحياة ليست بلا معنى، بل هي تصبح بلا معنى، أو تبدو بلا معنى، بسبب توقي للمعنى.. المشكلة هي رغبتي بإيجاد المعنى وليس انعدام المعنى في الحياة.. إذا لم أتوق للمعنى، فما هو الشيء الذي بلا معنى؟"... عندها ظهرت سعادة عظيمة متحررة من نفس بوذا.

 

الوجودية في الغرب قد فاتتها الحقيقة، فاتتها بينما كانت الرؤية متاحة وقريبة جداً.. فقط خطوة واحدة بعد.. أشخاص شجعان: مارتن هايدغر، سارتر، ألبرت كاموس، بيرداييف وغيرهم.. أناس شجعان لكن فاتتهم خطوة واحدة لكي يولد عدة مستنيرين في الغرب.

لقد ظللوا متعلقين بفكرة المعنى، وبعدها ظهر اليأس.. فأنت تريد بعض المعنى في الحياة.

كمثال، عندما تذهب للحديقة وتشاهد وردة جورية، وتسأل ما هو معنى الوردة.. سؤالك هذا يدمر كل جمالها.. الآن لا تستطيع رؤية سحر وجمال الوردة الأخاذ.. لا يمكنك رؤية بهجتها ورقصتها في الشمس ومع الرياح والمطر... لا يمكنك رؤية ما هو أمامك حقاً: تفتح ساحر لجزء من الوجود.. بل الآن أنت تفتش عن المعنى وتسأل: ما هو معنى وجود هذه الوردة؟

طبيعياً، ليس هناك معنى، لا يمكنك تصغير الوردة إلى معنى...

وعندما لا تستطيع تصغيرها ووضعها في علبة المعنى، يظهر يأس كبير: "ليس هناك معنى في الوردة؟ الحياة إذن كلها بلا معنى وعقيمة بلا جدوى.. الإنسان حماسة بلا فائدة"... فتقع في ليلة مظلمة.

خطوة واحدة بعد... عندما يتم رمي المعنى، يتم تحويل العالم بكامله..

لكن عندما ترمي المعنى، دع انعدام المعنى يرحل أيضاً.. ارمه معه..

كيف يمكنك حمل انعدام المعنى؟ كيف يمكنك قول: الإنسان حماسة بلا فائدة إذا لم يكن هناك فائدة؟؟ إذا كان كل شيء بلا فائدة مطلقاً، فحتى كلمة "بلا فائدة" تفقد المعنى.

 

هذه كانت الرؤية التي حدثت لبوذا، ثم تطورت تدريجياً ببطء وأثمرت في طرق الزن.

إذا فهمتَ هذا، ستقدر على فهم الزن وأسراره، وإلا ستفوتك كل النقاط المقصودة.. ولن تجد أي معنى لشعر الزن وحكمته، ولن ترى أي معنى في لوحات الزن وفنونه، وهذه الأسرار العظيمة ستبدو سخافة بالنسبة لك.

إذا فهمتَ هذه الرؤية، سيظهر مغزى عظيم.. يختفي المعنى، ويختفي انعدام المعنى، لكن يظهر المغزى... ذلك المغزى العريق، تلك العظمة في الحياة والوجود، هي كل ما يكوّن الله.

الله هو تزامن كل تلك العظمة للوجود، الإيقاع المتناغم لكل السحر الذي يحدث في كل زمان ومكان...

هذه القطرات الهاطلة من المطر.. صوت موسيقاها في صمت الصباح.. هذه العظمة المتراقصة هي الله...

بوذا لم يستعمل أبداً كلمة "الله" لأنها تصنع المشاكل، لذلك استعمل كلمة "الفناء".. كذلك بعض العارفين وقليل من الصوفيين يقولون أن الفناء هو أساس العرفان والبقاء.

الفناء يعني التوقف أو الانتهاء.. مثلما تطفئ الشمعة فتختفي.. لقد توقفت عن الوجود، يختفي المعنى ويختفي انعدام المعنى.. ومع اختفاء التوق للمعنى، يختفي شيء ما داخلك.. ما هو؟

مَن هو الذي يرغب بوجوب وجود معنى في الحياة؟ تلك الرغبة تصنع الأنا، تصنع عملية من تشكل وتضخم الأنا... كلما بحثتَ أكثر، وكلما اندفعتَ أكثر وراء المعنى، تظهر وتكبر الأنا أكثر.. وعندما تموت، فقط تلك الأنا هي التي تفشل وتموت.

 

الإنسان ليس حماسة بلا فائدة، بل الأنا هي كذلك.. لكنك إذا كنتَ تحدد نفسك بالأنا، عندها بالطبع سيبدو الأمر كأنك أنت بلا فائدة.

بوذا يقول، ويستمر معلمو الزن بتردادها: "ليس هناك معنى، وليس هناك انعدام معنى أيضاً.. كل شيء يوجد كما هو موجود"... لا تسأل عن المعنى وإلا سيفوتك.. فقط لا تبحث عن المعنى، وإلا ستصنع اليأس لنفسك.. انسَ كل شيء عن المعنى.

الوردة جميلة تماماً دون أي معنى، وكذلك الشمس والنجوم والناس.. في لحظة طرحك للسؤال حول المعنى ستبدأ ببطء تقع في فخ نوعٍ من الجنون... وعندما لا تجد المعنى، وكنتَ قد جازفتَ بكامل حياتك بحثاً عنه، من الطبيعي أن يشعر المرء بالإحباط وتظهر المعاناة.

 

أسطورة سيسيفوس لها مغزى.. لقد تمت كتابتها في اليونان.. لو أن بوذياً من الزن قد كتبها لأخذت طعماً مختلفاً تماماً.. لم يكن سيسيفوس ليهتم أو ينزعج من تدحرج الصخرة إلى الوادي، بل كان سيستمتع بكامل الرحلة إلى القمة ثم العودة مجدداً إلى الوادي.. الرحلة جميلة، أزهار تتفتح على جوانب الطريق والطيور تغرد وهواء الصبح ينعش العليل... يشعر المرء بالنشوة.. ويقوم سيسيفوس بترديد أغنية تبوح بأسرار الاستنارة والأنوار.

كان بمقدوره هزيمة الآلهة لو أنه كان رجلاً من الزن.. كانت الآلهة ستبكي وتنتحب لأنها قامت بمعاقبته وهو يستمتع! كان سيستمتع بكل الأشجار على الطريق وبكل الصخور.. حتى الصخرة التي كان يحملها ويتأمل بملمسها ولونها.

في صباح مشرق بهيج، قطرات المطر ورائحة الأرض التي تبللت منذ لحظات.. كان سيسيفوس سينشد أغنية رائعة تدل على تفتح بصيرته ويقول: هذه هي! فيرقص مع الصخرة وحولها منتشياً صادقاً أكثر من ألف غبي يطوف حول صنم مكعب دون أي فهم أو اختبار.

وعندما تتدحرج الصخرة من القمة باندفاع.. صوتها المذهل! من جديد سيشعر بالنشوة ويبدأ مغامرة الهبوط إلى الوادي وجلب الصخرة إلى القمة مرة ثانية وكل تلك الرحلة الجميلة.. عندها يتغير كامل منظور القصة... لكن الفكر اليوناني الإغريقي منطقي وغارق بالمنطق، هم الذين صنعوا المنطق في العالم وهم مصدر كل المنطق.

 

تبدو القصة إدانة لسيسيفوس، لا يمكنك رؤية أي معنى في ذلك.. ماذا سيكون المعنى؟ عندما يصل سيسيفوس إلى القمة ويكافئونه بجائزة نوبل، هل تعتقد عندها أن هناك معنى في ذلك؟ تلك ستكون صخرة ثانية يلزم حملها.. ما هو المعنى؟ وسيبقى السؤال ذاته: ما هو معنى الحصول على جائزة نوبل؟ هل تعتقد أنه إذا وصل إلى القمة وصار مليونيراً أن ذلك سيكون المعنى؟ أو قد يصبح مشهوراً عالمياً: سيسيفوس يصل إلى القمة وتتحدث عنه كل المحطات والمجلات وتنشر صورته على الصفحة الأولى.. هل ذلك سيكون المعنى؟ أي معنى؟ هل تفكر أن أي معنى سيكون معنى حقيقي؟

لا... التفكير بكامله خاطئ.. إذا كنتَ تفكر بالمعنى كنتيجة، ستفوتك كامل النقطة.. هنا تكمن الأهمية العظيمة لرؤية بوذا حيث يقول: "المعنى لا يوجد في النتيجة بل في الفِعل ذاته".. وإذا لم تكن تبحث عن المعنى فعندها سيكون المعنى طبيعياً في الفعل فقط.. إذا كنتَ تبحث عن المعنى فقد انتقلتَ إلى المستقبل، فاتتك هذه اللحظة، فاتك الزمن الحاضر.. فقدتَ ما هو موجود.. وجمال ما هو موجود وبركته وبهجته.

هذا هو الزن... الزن يرمي البحث عن المعنى لأنه بحث ناتج عن الأنا.. ويتم اعتقاد أن تضخيم الأنا هو المعنى.

الزن يرمي البحث ذاته عن المعنى، وفي ذلك الرمي تحديداً، تختفي كل أنواع انعدام المعنى.. انظر إلى جمال المقال.. عندها الحياة حيّة ببساطة: لا معنى ولا انعدام معنى.. كيف ستكون بائساً؟ وعندما لا يكون هناك بحث عن المعنى، فعندها لا تعود منفصلاً عن الحياة... عندما لا تبحث عن أي معنى، كيف يمكنك فصل نفسك عن الحياة؟ عندها أنت جزء من هذه الوحدة الحيوية، هذه العظمة المتزامنة، هذا السحر للكيان والأكوان ونشوة العرفان... عندها تغني مع الطيور وتتفتح مع الزهور، تتمايل مع الأشجار وترقص مع النجوم.. عندها لن تمتلك أي عالم ضيق خاص بك: هذا العالم بكامله هو عالمك.. وعندها لا يوجد أي فكرة عن المستقبل.. هذه اللحظة هي كل شيء: فهي تحتوي الأبدية.

 

قال فريدريك نيتشه: "خسارة الله تعني الجنون، وعندما تكتشف البشرية أنها خسرت الله، سينتشر وباء عالمي من الجنون"... أتى هذا القول من شخص أعلن بنفسه أن الله ميت.. إنه خائف من إعلانه هذا.. يقول أنه عندما نخسر الله سيصاب الإنسان بالجنون.. وهذا بالضبط ما قد حدث لنيتشه.. لقد جُن.. لم يستطع العيش دون معنى بالرغم من أنه تجرأ وأعلن أن الله ميت.. ربما لقد تجرأ كثيراً زيادة وأبعد من حدود احتماله، ربما لم يقدر على هضم موت الله، فكانت صدمة قوية له.. ربما كان يقوم بردّ فعل وانتقل من تطرف إلى تطرف معاكس، فظهر جرح عميق في كيانه.. هو ذاته لم يستطع العيش دون الله.. كان رجلاً مستكبراً جداً، فلم يستطع الاعتقاد بوجود الله، لذلك كان عليه إعلان أن الله ميت.. لكنه حالما أعلن موت الله لم يعد هناك أي معنى.

موت الله هو موت المعنى.. لقد بقي الله هو المعنى طيلة قرون.. منذ أن ظهر الإنسان على وجه الأرض، كان الله هو المعنى بالنسبة له، أي: "نستطيع دوماً البحث عن الله والتماسه" وأن: "الحياة هي ممر ومجرد انتظار لملاقاة الله".. وأنه: "عاجلاً أم آجلاً سنعود للبيت العتيق منزل الأرواح"... أن هناك منزلاً، أو شكلاً سماوياً يشبه الأب أو الأم يحميك وينتظرك.. اطمئن أنت لستَ مفقوداً، ربما قد ضعتَ قليلاً وتهتَ عن الطريق فحسب.. يمكنك في أي وقت أخذ قرار بالعودة، وستجد البيت حتماً لأنه موجود هناك ولم يختف أبداً.. بقي الله هو المركز، مركز كل المعنى، وكل المعاني تنشأ من فكرة الله.

الآن، كان من الصعب على الأنا عند نيتشه قبول أي معنى من الخارج، أراد أن يأتي المعنى من داخله هو، يجب أن يكون المعنى ملكه هو وليس ملك الله.. لم يرغب باستعارته من أي أحد فقد كان رجلاً فخوراً جداً... أعلن أن الله ميت، لكن حالما يموت الله يموت كل المعنى.. حالما يموت الله، لا يبقى هناك مركز للوجود، فيبدأ كل شيء بالسقوط والتفكك والتحلل.. كل القيم الأخرى هي قيم ثانوية مستخرجة بالأصل من الله.

 

ما هو الخير أو الجيد إذا لم يكن هناك إله؟ ما هي الطهارة والفضيلة والحسنات إذا لم يكن هناك إله؟ مَن هو الخاطي ومَن هو القديس إذا لم يكن هناك إله؟ ولماذا لا نفعل ذلك ونفعل هذا إذا لم يكن هناك إله؟.. عندما أعلن نيتشه أن "الله ميت" فهو قد أعلن في نفس الجملة أن "الإنسان حر الآن".

طبيعياً، حر من كل القيم، حر من كل القيود والموانع، وحر من كل المسؤوليات..

الآن لم يعد الإنسان عرضة للسؤال أو الحساب من قِبل أي أحد.. لن يكون هناك أي يوم قيامة أو حساب وتسجيل للحسنات والسيئات، الإنسان حر الآن، يستطيع فعل أي شيء يريد فعله.

يقول فيودور دوستوفيسكي: "إذا لم يكن هناك إله، فكل شيء مسموح".. من الواضح أنه مع غياب الإله سيكون كل شيء مسموحاً، فمَن سيقول لك افعل هذا ولا تفعل ذلك؟ عندها الطاعة والعصيان كلاهما بلا معنى.. عندها آدم لا يمكن طرده من جنة الفردوس، فليس هناك إله يستطيع طرده أو منعه قائلاً: "لا تأكل من ثمار شجرة المعرفة هذه".. ولا يوجد إله يستطيع إجبار آدم على الطاعة.

وحالما يختفي الله، لا توجد خطيئة أو زنا، لأن الخطيئة هي عصيان، الخطيئة هي خطوة ضد وصايا الله.. اختفاء الله يعني اختفاء كل القيم، عندها الإنسان مجرد حيوان بري دون أي قيم... إذا لم يكن هناك إله فالإنسان حر بالتأكيد.

 

يقول سارتر: "الإنسان مُدان لأنه حر".... مُدان؟!؟ نعم، إذا لم تكن هناك قيم، ستكون الحرية كثيرة جداً، ولن تكون قادراً على عيشها.. الحياة ستصبح فوضى: الحرية ستتحول إلى فوضى، وستتحول إلى جنون.

نيتشه لم يكن مدركاً أنه إذا لم يكن هناك إله، فالإنسان سيصاب بالجنون.. نيتشه ذاته أصبح مجنوناً خاصة في أواخر سنين حياته.. فقد كل حسّ التوجه وقدراته العقلية على توجيه نفسه.. لم يكن أمامه مكان يذهب إليه مع اختفاء الله... لم يكن نيتشه مدركاً بأنه كان هناك أشخاص قالوا: "لا يوجد إله" لكنهم لم يصابوا بالجنون.. وبوذا واحد منهم.

لا يوجد إله، ومع ذلك لم يُجن بوذا... في الواقع، يقول بوذا أنك تصنع الله بطريقة ما لتحافظ على صحة وسلامة عقلك.. صحتك العقلية ليست صحة حقيقية، فهي تحتاج لإله للمحافظة عليها... دون إله ستنكشف حقيقتك وأنت مجنون.. الله هو مجرد خدعة لإبقائك عاقلاً.. كل أديانكم ليست إلا خطط وسياسات لتبقيكم عاقلين: اصنع الشيء وآمن به.. معتقدات ومواساة.. وإلا ستكون الحياة كثيرة عليكم ولن تستطيعوا احتمالها، ألمها وعذابها ومسؤولياتها...

 

إذا فهمتم بوذا، ستفهمون أن الإيمان بالله هو مجرد طريقة ما لحماية أنفسكم من الجنون الداخلي الموجود هناك.

الإنسان العاقل فعلاً لن يحتاج أي إله.. الإنسان الصحّي فعلاً، الكامل والواعي، لن يحتاج أي إله.. سيكون هو إلهاً بحد ذاته، فلماذا سيحتاج لله؟

نيتشه غير مدرك بأن بوذا عاش دون إله.. وبوذا لم يكن وحيداً، بل مهافيرا أيضاً عاش دون إله.. وكثيرٌ غيرهم من الأشخاص المستنيرين الذين أتوا قبلهم وبعدهم.

في الشرق، أعظم المدارس مثل البوذية واليانية والطاوية، خالية من الله.. ومع ذلك فهي أديان... الغرب غير قادر على فهم كيف يمكن تشكيل أديان دون فكرة وجود الله.. الغرب لا يتخيل حتى وجود دين دون الله.. إنهم مهووسون جداً بفكرة الله.. لذلك، إذا كان الله ميتاً أو اختفى الله، أو لم يقدر أحد على إيجاده، أو أصبح الإنسان لا يعتقد بوجود الله، سيصبح مجنوناً.

أصيب نيتشه بالجنون.. والبشرية بكاملها تتجه ببطء إلى ذلك الجنون.. لقد تنبأ بشكل صحيح وقد كان متنبئاً مجنوناً مثالياً!

لكن أهل الزن أو أهل الحق ليس عندهم إله...

فمن أين إذن يحصل الزن على الوعي والعقلانية والارتقاء؟ من أين، من أي مصدر؟؟

 

مع رمي الرغبة بالمعنى يتم رمي الله.. الله ليس إلا معنى صناعي قام الإنسان بخلقه.. يقول الإنجيل أن الله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله، وذلك غير صحيح.. الإنسان قد خلق الله على صورته ومثاله، هذا حقيقي أكثر بكثير.. في الواقع، قول أن الله هو أب الإنسان خاطئ، بل الله هو ابن الإنسان لأنه فكرة من أفكار الإنسان.

الإنسان لا يستطيع العيش دون الله، هذا هو المرض النفسي وجنون الإنسان الذي يُظهر اتكالية الإنسان.. لا يستطيع الإنسان العيش دون شكل سماوي أبوي، إنه يحتاج أحداً ما ليعتمد عليه وينظر إليه.. الإنسان يحتاج كثيراً من المساعدة ولا يستطيع الوقوف على رجليه الخاصة به.

وذلك هو جمال الزن، وتلك هي رسالة بوذا: أن الإنسان يمكن فعلاً أن يعتمد على نفسه فقط.. ليس هناك حاجة للاتكال أو الاتكاء على أحد.. الله بالتأكيد يظهر داخلك عندما لا تتكل على أحد، لأنك عندما تتكل فأنت في الواقع تتكل على معتقداتك الخاصة بك لا أكثر.. إنها أحلام، إسقاطات غير حقيقية.

انطلاقاً من الخوف تقوم بصنع الله، فكيف يمكن أن يكون حقيقياً؟ إنه ليس اختبارك.

انطلاقاً من اليأس تقوم بصنع الله كنتيجة ثانوية عن اليأس.. انطلاقاً من التعاسة والمعاناة.. كيف يمكن لإلهك أن يكون نوراً من الحق الحقيقي؟

كيف سيكون الحقيقة والوعي والغبطة الكونية؟ أنت تقوم بخلق إلهك انطلاقاً من لا وعيك، فكيف يمكن أن يكون وعياً؟ تقوم بخلقه انطلاقاً من البؤس فكيف يمكن أن يكون رقصةً ونشوة؟ تقوم بخلقه انطلاقاً من أكاذيبك وأعظم كذبة هي الإيمان بالله دون معرفته، فكيف يمكن أن يكون الله هو الحقيقة؟ مستحيل، لا تخدع نفسك.

 

يقول بوذا: يجب ألا يتم خلق الله بواسطتك أنت.. عليك الوصول إلى نقطة تقدر فيها على رمي كل البحث عن المعنى وكل التوق للمعنى.. مع رمي ذلك البحث تختفي كل الآلهة تلقائياً وتختفي الجنة والنار، كل تلك كانت مجرد أحلام.. ستبقى أنت فرداً وحيداً في فناء وخالياً من كل شيء.

وتذكر مجدداً، لن تقع هنا في يأس أو إحباط، لا يمكن لمتأمل مثل بوذا أن يقع فيه.. مستحيل: لقد اختفى الأمل واختفى معه اليأس أيضاً... واختفى الهدف، فكيف يمكن أن تكون قلقاً الآن؟ القلق يظهر فقط عند وجود هدف: هل ستحققه أم لا؟ لا يمكن ظهور أي توتر عند اختفاء المعنى.

وكل ما يبقى هناك لعب ولهو جميل.. كل ما يبقى هو عيش هذه اللحظة: عندما تأكل كل، عندما تنام نم، عندما تسير سر... وكل فعل هو قمة بحد ذاته وهدف.. ليس غايةً لأجل أي شيء آخر.. وليس له غاية حتى بأن يكون له معنى... إنه ليس ذو معنى وليس عديم المعنى.. إنه ببساطة كما هو.

هذا هو ما يدعوه بوذا بشيئية الأشياء.. كونها كما هي.. وهذه هي الحرية.. وهي ليست مثل حرية سارتر بأن: الإنسان مدان لأنه حر، بل هذه الحرية هي جمال الإنسان وعظمته وعطره... إنها تحرر من الأنا ومن كل القيود والهويات الزائفة وتحرير للجمال والعطر الداخلي... يتفتح كيانك هنا والآن دون أي مستقبل... هذه اللحظة هي كل شيء.

 

بدأ بوذا ثورة في وعي البشرية، دينه ليس مثل أي دين عادي بل متجاوز لكل الجهل... بصيرة نادرة تخترق لب الوجود.. والزن تفتح انطلاقاً من تلك الرؤية.. استنارة بوذا قد عاشت ونمت وتوسعت.. حصلت على اهتمام وطاقة هائلة وهذا هو الزن اليوم.

والزن فيه شيء أساسي جداً جداً لبقاء الإنسان في المستقبل، وإلا سيكون الانتحار هو الفكرة الوحيدة التي تشغل العقول.. الزن يستطيع إعطاءك البديل والبديل هو حياة الحق والجماعة.

الانتحار يعني: لا يوجد معنى، إذن قم بتدمير نفسك.

حياة الحق تعني: لا يوجد معنى، إذن أنت حر من التعلقات فاستمتع بنفسك..

لأنه ليس هناك معنى، فليس هناك قدر أو وِجهة.. أنت حر لتستمتع بهذه اللحظة بكل قلبك، لا شيء يمنعك، لا إله يحاسبك أو يعاقبك، لا وصايا ولا حسنات ولا خطايا... أنت حر تماماً لتكون حياً في اللحظة الحاضرة.

 

المستقبل سيشبه الزن أكثر من أي شيء آخر... إذا أراد الإنسان البقاء حياً، فعلى الدّين أن يأخذ قالب الزن وليس أي طريق آخر، لأن الزن ليس ديناً مثل المسيحية أو الهندوسية أو حتى البوذية.. الزن هو نوع جديد من التديّن.. ليس ديناً بل تدين.

الفروق بين الأديان الأخرى هي فروق بالكمية..

الفرق بين الزن والأديان الأخرى هو فرق بالنوعية: ثورة نوعية..

الزن يعطيك رؤية جديدة وبصيرة جديدة.. حياةً من الحرية المطلقة.. حياةً من العفوية القصوى... حياةً من اللحظة، في اللحظة، ولأجل اللحظة... وليس هناك أي مكان آخر تذهب إليه.

 

هذا سيكون مستقبل البشرية، هذه هي الإمكانية الوحيدة لبقاء الإنسان..

الوجودية في الغرب قد خلقت جواً يسمح للزن بالظهور، لكن الوجودية هي نصف الزن، أو زن غير واعي تماماً.. الزن هو وجودية واعية.

سارتر وكاموس وهيديغر وبيرداييف ومارسيل وغيرهم.. مجرّد رواد سباقين لشيء قادم، وهو شيء قد وصل سلفاً عند مَن يستطيع الرؤية.

لذلك سنتكلم كثيراً عن الزن: الزن له طعم وعطر ولون المستقبل..

لا يستطيع الإنسان البقاء مسجوناً في المعابد والكنائس والجوامع بعد الآن.. آن الأوان لنكتفي من كل الجهل ونعود للتأمل والعقل.. الإنسان يحتاج للسماء بكاملها الآن.

 

لنبدأ بأناشيد الأسرار:

نور القمر ينعكس في النهر..

والرياح تهب بين أشجار الصنوبر..

في برودة المساء، في عمق منتصف الليل، لماذا كل ذلك؟

تقول لك الأسرار: إذا سألتَ هذا السؤال فأنت أحمق! عندما ترى القمر ينعكس في النهر، هل تستطيع أن تسأل لماذا ينعكس؟ ما هو معنى ذلك؟ أليس جميلاً كما هو؟ هل ضروري جلب معنى له؟ وهل سيضيف المعنى أي شيء لجماله وبهجته؟ القمر ينعكس في النهر.. هذا كافي وأكثر من كافي.. لماذا تريد أكثر؟ لماذا تفكر بالمعنى؟

البحث عن المعنى هو طمع.. وهو بحث مادي دنيوي.. الإنسان المتدين سيستمتع بهذه اللحظة.. صمت ورونق وجمال سحر انعكاس القمر... لا القمر يريد أن تنعكس صورته في النهر، ولا النهر يريد الإمساك بالقمر بعكس صورته... لا يوجد رغبات في أي مكان.. لا عند القمر ولا عند النهر.. لكن القمر هناك والنهر هناك.. لذلك الانعكاس.

النهر غير مشغول بمعنى القمر، ولا القمر قلق عن معنى النهر... أنت تجلس على الضفة ومشغول وتفكر: ما هو معنى كل هذا؟ وإذا لم أقدر على إيجاد أي معنى، عندها لماذا عليّ أن أعيش؟ لماذا لا أنتحر؟

مثل هذا العالم الجميل المليء بالسحر والأنوار واللحظات الباهرة والقمر ينعكس في النهر... وأنت الفيلسوف العبقري تفكر بالانتحار وتتفلسف عنه!

ألا يمكنك الاستمتاع بهذه اللحظة عارية كما هي؟ هل عليك دوماً جلب المعنى إلى كل شيء؟ ومعرفة استعمال وفائدة كل شيء؟ هل تريد أن تبيع انعكاس القمر في السوق؟ وعندما تحصل على ألف درهم ثمناً له، عندها هل ستقول: "نعم هناك معنى"؟ ما هو الذي تطلبه؟ ماذا تعني بـ المعنى؟

 

طفل يلعب.. يأتي والده إلى البيت ويقول: "اكتب وظائفك! ماذا تفعل؟ّ قم بشيء مفيد!!"

لماذا وظائف المدرسة مفيدة؟ لأنها ستجلب المال لاحقاً.. ما هي فائدتها سوى ذلك؟ اللعب غير مفيد لأنه لن يجلب أي مال.

لقد قمنا بتصغير كامل الحياة إلى أدوات وفوائد وأرقام.. وأصبحنا جميعاً روبوتات، والروبوت لا يمكن أبداً أن يكون متديناً.. إذا سألتني مَن هو المتدين ومن هو غير المتدين، فهذا هو تعريفي.. الله ليس هو المشكلة.. سواء كان الشخص يؤمن بالله أو لا يؤمن فهذا لا يجعله متدين أو غير متدين... رأيتُ ملايين الناس تؤمن بالله وهي غير متدينة، ورأيتُ بعض الناس الذين لا يؤمنون بالله وهم متدينون.. لذلك لا فرق بالإيمان لأنه لا يقرر شيئاً عن الشخص.

تعريفي هو: الشخص الذي يفكر فقط بالفوائد مثل الروبوت هو غير متدين.. فهو لا يستطيع فهم الجمال لأنه يفكر دوماً بالفوائد والوظائف.

ترى طيراً يحلّق في السماء الصافية.. يطير ويتوازن ببراعة وهدوء فارداً جناحيه فتقول: "انظر! انظر إلى الطير يحلق في السماء!"

فيقول لك صديقك: "نعم ماذا إذن؟"... هذا الصديق غير متدين.. فهو يسأل لماذا، وماذا هو المعنى؟ هل نستطيع بيع الطير؟ هل نستطيع دراسته أو تحنيطه؟! هل يمكننا تحويل المشهد إلى دراسة اقتصادية وسياسية؟ هل سيساعدني ذلك على الفوز بالانتخابات القادمة؟ هل سأحصل منه على حساب أكبر في البنك؟ وأصبح أكثر شهرة؟ ما هي النقطة إذن؟ لماذا نضيع الوقت بمشاهدة الطير؟!

 

كان الحكيم لاوتسو يسير في الطريق، يسير في رحلة حج أبدية... ربما تسأل: رحلة حج؟ إلى أين؟ هل هو ذاهب إلى مكة أم كايلاش؟

لا.. الحج ليس إلى أي مكان.. إنه يستمتع فحسب بالأنهار والجبال والوديان.. حج إلى اللامكان.. وتلاميذه يسيرون معه.

وصلوا إلى غابة حيث تم فيها قطع كل الأشجار ما عدا شجرة واحدة، شجرة كبيرة جداً وفروعها عالية كثيفة تعطي ظلالاً لألف مسافر..

أرسل لاوتسو أحد تلاميذه وكان فيلسوفاً وقال له: "اسألهم ماذا حدث.. لأن الغابة بكاملها يتم قطعها، ألوف العمال لا يزالون يقطعون بقية الأشجار لكن لماذا لم يقترب أحد من هذه الشجرة؟"

أرسل تلميذه الفيلسوف لأنه كان دوماً يسأل عن الغاية والمعنى والفائدة.. ذهب التلميذ وعاد محتاراً ومرتبكاً قليلاً وقال: "هذا محير.. لقد سألتهم فقالوا أن الشجرة عديمة الفائدة.. قالوا أن جذوعها وفروعها ملتوية جداً فلا يمكن صنع الأثاث منها.. وأوراقها لا يمكن لأي حيوان أن يأكل منها.. وعندما تحرق خشبها لا ينتج عنه إلا الدخان الكثيف.. الشجرة بلا فائدة مطلقاً.. لذلك لم يقطعوها".

ضحك لاوتسو من قلبه وقال: "هل رأيتَ فائدة عدم الفائدة؟ انظر كيف نجت هذه الشجرة لأنها بلا فائدة.. انظر إلى جمال عدم فائدتها! إنها تستمتع بالشمس والغيوم ولا تزال حية.. بينما الأشجار المفيدة تم قطعها كلها".... ثم قال لتلاميذه: "كونوا بلا فائدة مثل هذه الشجرة، عندها لن يزعجكم أحد ولا أحد سيقتلكم وستقدرون على الرقص والاستمتاع مثل هذه الشجرة!"

لاوتسو يقول أن الفائدة ليست كل ما يوجد في الحياة، وأن تفكر بأن الفائدة هي كل ما هناك، يعني أن تكون مادياً وغير متدين.. الشخص الذي يسأل دائماً عن الفائدة وعن المعنى هو شخص غير متدين.. الشخص المتدين يستمتع.

إنه لا يطرح أي سؤال عن الحياة... الحياة جميلة جداً فلماذا تضييع الوقت بالأسئلة؟ نور القمر ينعكس في النهر... والرياح تهب بين أشجار الصنوبر.. في برودة المساء، في عمق منتصف الليل، لماذا كل ذلك؟

تقول لك الأسرار: لا تطرح سؤال لماذا كل ذلك! لماذا تسأل عن الإنسان؟ لماذا تسأل عن الله؟ لماذا تسأل بالأساس؟ السؤال يخلق عائقاً في وجه الاستمتاع.

الفلاسفة هم أقل الناس استمتاعاً بالحياة، وللأسف هم الذين يتحكمون بعقول الناس... وهم أقل الناس سعادة وأكثرهم بؤساً وتعقيداً.. إنهم دوماً يسألون لماذا.

 

أتت امرأة جميلة إلى إيمانويل كانت، قالت له أنها وقعت في حبه وتريد أن تتزوجه.. فقال: "لماذا؟ لماذا على المرء أن يقع في الحب؟ وما هو معنى الحب؟ يجب علي أن أفكر بالموضوع قليلاً".

فكر الفيلسوف وفكر.. قرأ كتباً عن الحب وعن الزواج.. فكر بكل الإيجابيات والسلبيات.. طبعاً استغرق ذلك بعض الوقت.. وبعد ثلاث سنوات قرر أن الأمر يستحق المحاولة، لأن المرء لن يخسر فيه شيئاً.. قد لا يربح المرء شيئاً لكنه لن يخسر شيئاً... لقد كتب كثيراً من الملاحظات، كأنها نظرية فلسفية مفصلة.. كتب فيها كل الإيجابيات والسلبيات، ووجد أن الإيجابيات أكثر بقليل من السلبيات لذلك قرر الزواج.. طرق على باب بيت المرأة ففتح والدها فقال له: "أنا الآن مستعد.. أين هي ابنتك؟".. ضحك الأب وقال: "لقد تأخرتَ كثيراً.. لقد تزوجت وصار عندها طفل الآن.. لقد استغرقتَ وقتاً طويلاً جداً بالتفكير وفاتك القطار!"

حتى الحب بالنسبة للفيلسوف يصبح مشكلة، الجمال يصبح مشكلة، الفرح يصبح مشكلة... يستمر بسؤال لماذا.. لماذا.. لماذا..

سمعتُ عن مريض.. لا بد أنه فيلسوف.. نصحه الطبيب النفسي بأخذ استراحة في الجبال الهادئة.. فذهب إليها... وبعد بضعة أيام اتصل بالطبيب وقال: أنا أشعر بسعادة كبيرة.. لماذا؟ الآن اشرح لي؟!

حتى السعادة يجب شرحها أولاً... لا تضحكوا على هذه الحادثة لأن كثيراً من الناس يمرون بها.. عندما يبدؤون بالتأمل ويشعرون بالفرح وبالابتهاج، تجدهم يصابون بالحيرة والارتباك ويسألون: أنا أشعر بسعادة غامرة.. لماذا؟

البؤس لا بأس به، لكن الفرح؟ شيء غير متوقع يحدث لهم ولم يحضروا أنفسهم لاستقباله.

وتذكر شيئاً واحداً: إذا سألتَ عن البؤس يمكن الإجابة، أما إذا سألت عن الفرح فلا يمكن الإجابة.. البؤس غير طبيعي لذلك يمتلك سبباً ما، أما الفرح فهو فيض طبيعي لا يمتلك أي سبب.

إذا ذهبتَ إلى الطبيب وسألته: "أنا أشعر بالصحة الجيدة.. لماذا؟".. لا يمكنه إجابتك ولا شرح الحالة... لا يمكنه طلب صورة أشعة وتخطيط قلب أو تحليل للدم لأن الصحة لا يمكن فحصها بأية طريقة.. لا يوجد أي آلة تستطيع قول أنك بصحة جيدة وتظهر لك السبب.. أنت بصحة لأنك حيّ، أنت بصحة لأنك يجب أن تكون بصحة.. الصحة شيء طبيعي..

لكنك إذا ذهبتَ إلى الطبيب وكنتَ مريضاً، يمكنه إظهار سبب مرضك: قد يكون سل أو سكري أو سرطان.. ويمكن إيجاد الأسباب.. يمكن دوماً إيجاد سبب أي شيء غير طبيعي.

الفرح هو مجرد شيء طبيعي فطري، فلا تسأل أبداً لماذا...

لا تسأل أبداً عن سبب الحب، الفرح، الجمال، الله، والحياة...

نور القمر ينعكس في النهر...

والرياح تهب بين أشجار الصنوبر..

في برودة المساء، في عمق منتصف الليل، لماذا كل ذلك؟

 

إن ما يحدث في الحياة ليس محصوراً بهدف، وليس وسيلة لأجل غاية محددة، بل هو الغاية بحد ذاته.. إذا سألتَ لماذا، ستخلق المشاكل، وعندما لا تتم إجابة سؤالك ستشعر أن كل شيء بلا معنى.. سيظهر اليأس إذا سألتَ لماذا، لأن الطبيعة غير مجبورة أبداً على إجابتك وهي لا تجيب أي سؤال غبي أحمق وتافه.. سيضحك القمر ويستمر مندفعاً في السماء، سيضحك النهر ويستمر راكضاً إلى المحيط، ستستمر الرياح بالهبوب بين أشجار الصنوبر... لن تأبه الأشجار بالسؤال ولا بالجواب، وستبقى أنت وحيداً.

في اللحظة التي يسأل فيها الإنسان لماذا، يتم تركه وحيداً، يتم فصله عن كلية الوجود..

ارمِ لماذا، وفجأة ستكون واحداً مع الرياح والأشجار والنهر والقمر.. وتلك الأحدية والتوحيد هي الله.

الله ليس مفهوماً دينياً أو فلسفياً، بل هو تجربة وجودية... تلك الأحدية هي الله..

عندما لا يكون القمر منفصلاً وبعيداً بل مدموجاً معك، والنهر لا يجري منفصلاً بل يذوب معك، عندما تكون ورقة الشجرة وأبعد نجم من المجرة مترابطان داخلك ولا يوجد "لماذا"، عندها ينسجم كل شيء بتناغم وإيقاع واحد.. اسأل لماذا، وسيتم فصلك عن أصلك وتصبح جزيرة معزولة... فيظهر البؤس والخوف والوحشة... ارمِ لماذا، ولن تبق لوحدك لأنك واحدٌ مع الوجود كله.. كيف ستكون وحيداً والقمر والنهر والرياح والأشجار والجبال والنجوم وكل هذا الوجود ينتمي إليك وأنت تنتمي إليه؟

 

عندما نصل إلى الواقع الحقيقي، تتم مشاهدة أنه ليس شخصي وليس غير شخصي..

هذا هو الوصول وتحقيق حقيقة الواقع: عندما لا تسأل لماذا، عندما ترمي التوق المريض للمعنى..هذا التوق المجنون يقودك إلى يأس كبير يجعل الحياة شبه مستحيلة، فعلاً معجزة كيف لا تزال حياً! نعم فرويد قد يكون محقاً بالنسبة لك: "حياة الإنسان تميل لأن تكون قضية تحمّل واحتمال أكثر من تمتع وجَمال".. فرويد ذاته لم يستمتع مطلقاً في حياته، بل تحملها فحسب.

لكن ذلك بشع: أن تتحمل! أن تتحمل بركة ونعمة كهذه بينما يمكنك أن تختفي وتذوب معها، نعمة لا تحتاج لأن تبقى منفصلاً عنها بل يمكنك أن تكون جزءاً من الرقصة ولحناً من الأغنية.

"عندما نصل إلى الواقع الحقيقي".. هذا هو الواقع: رمي سؤال لماذا، رمي التوجهات الفلسفية في الحياة، رمي التوق للمعنى.. عندها تصل للواقع.

فجأة تكون واحداً مع الوجود... فجأة تبدأ بفهم لغة الطيور والأشجار، فجأة تحقق الأحدية البدائية الأولى.. تلك الأحدية لا تزال موجودة في عمق جوهر كيانك وهناك أنت متصل بها.

أنت لا تزال متصلاً بالأصل، بالنهر، بمصدر الصوت والنور أو الله أو الألوهية مهما كان الاسم... صوت الصمت الأبدي.. مهما وضعتَ له اسماً فأنت لا تزال موصولاً به، فقط في رأسك أنت مفصل.. فقط في الرأس منفصل ولذلك يمكن إعادة الاتصال.. في عمق الجذور لا تزال موصولاً وواحداً مع القمر والنهر..

 

لذلك عندما تذهب للبحر تجد أن شيئاً ما يتحرك داخلك ويصدر فقاعات وأمواج: أنت لا تزال موصولاً بالبحر... عندما ترى أمواج المدّ وتسمع صوت هديرها وزئيرها، شيء ما يبدأ بالزئير داخلك.. بحرك الداخلي يبدأ بالتجاوب.

لقد تمت ولادة الإنسان الأولى في البحر.. كان مولوداً كسمكة، ونفس القصة ستتكرر مع كل طفل.. كل جنين في رحم أمه يسبح في بحر صغير، محتوى الماء في رحم الأم يشبه محتوى وتركيب ماء البحر.. ماء مالح.. لهذا السبب تبدأ الحامل بتناول مزيد من الملح، إنها تحتاجه لأن عليها صنع بحر صغير داخلها... يولد الطفل مجدداً كسمكة.. وفي تلك الشهور التسعة في رحم الأم، عليه اجتياز ملايين السنين بسرعة هائلة.. حتى أنت الكبير ورغم أنك خارج الرحم، لكن جسدك يحتوي ماء بحر، نسبة كبيرة منه 80% هي ماء بحر...

ونسبة الأملاح في سوائل جسمك تساوي نسبتها في البحر.. لذلك إذا نقص الملح من طعامك لن تشعر بالطاقة والحيوية وستضعف.. لذلك الملح من أهم الأشياء الضرورية للحياة، حتى أفقر إنسان لا بد أن يمتلك الملح.. الفقراء جداً لا يملكون إلا شيئين: الخبز والملح... الملح أساسي ومن دونه تبدأ الحياة بالاختفاء.. أنت تحمل بحراً داخلك، لذلك عندما تذهب للبحر يبدأ بحرك الداخلي بالتجاوب وتظهر الأمواج.

 

هل راقبتَ عازف عود أو غيتار؟ هل جربتَ العزف بنفسك؟ هناك عدة أوتار للعود، انقر وتراً منها يحمل نغمة محددة، وستفاجأ أن كل الأوتار الباقية ستردد نفس النغمة رغم عدم لمسها.. هذه هي أحدية وتكامل الحياة.. وهذا ما يحدث مع المعلم.. يستمر بإصدار نغمة محددة داخل كيانه، فتبدأ نفس النغمة تتجاوب داخل كيانك أنت.. كيان المريد.. هذه هي الحضرة والحضور.. عاجلاً أم آجلاً تبدأ بسماع الصوت والألحان الداخلية.. تذهب للبحر فيتكلم مع بحرك الداخلي.

لهذا أيضاً تتأثر كثيراً بالقمر وهو بدر مكتمل.. في ليالي البدر يصاب مزيد من الناس بالجنون، وكذلك يولد المزيد من الشعر ومن الحب بالطبع.. في جميع لغات العالم هناك كلمات تربط الجنون بالقمر.. هناك شيء ما يحدث بين القمر والدماغ.. تماماً مثلما يصاب البحر بالجنون مع اكتمال القمر، بحرك الداخلي أيضاً يصاب بالجنون في نفس  الموعد.. أنت موصول.

عندما تذهب عميقاً في غابة كبيرة، وتصادف الصمت البدائي للغابة، يتجاوب شيء ما داخلك، يظهر حنين قديم وتتذكر.. شيء عميق فيك يبدأ بالظهور إلى السطح.. أنت تحمل كل تجارب كامل الوجود داخلك.

عندما تذهب إلى جبال الهيمالايا، ليست الجبال هي وحدها المسؤولة عن شعورك بالصمت الكبير، بل الجبال تقدر فقط على جعل شيء ما داخلك يتجاوب معها.. هناك هيمالايا داخلية.. لقد عاش الإنسان في الجبال.. الهواء المنعش والثلوج العذراء.. وشيء عذريّ يتجاوب ويظهر داخلك.

نحن واحد... هذا ما يقوله أهل الزن.. أهل الحق..

 

"عندما نصل إلى الواقع الحقيقي، تتم مشاهدة أنه ليس شخصي وليس غير شخصي.." عندها يعرف المرء أنه ليس شخصي ولا غير شخصي.. كلا الكلمتين بلا فائدة.

الله ليس شخص، وكذلك ليس "لا شخص".. إذن ما هو الله؟

من الصعب القول.. الله فوق أي وصف أو كلمة.. أكبر وأكبر.. إنه تجربة من وحدة حيوية مع الكليّة، والكلية ليست شخصية ولا غير شخصية.. كل أنواع تلك الكلمات التي تعتمد على الثنائيات تصبح عديمة المعنى ويجب رميها.. لذلك أهل الزن صامتون عن ذكر الله ولا يقولون أي كلمة عنه.

إذا صنعتَ صنماً لله فهو يصبح شخصي.. مثلما يفعل الهندوسيون

إذا لم تصنع صنماً لله مثلما يفعل المحمديون، فهو يصبح غير شخصي.

لكن نقطة المرجع تبقى ذاتها: الشخص..

 

شخصي أم غير شخصي.. الهندوسيين والمحمديين لا يختلفان كثيراً.. أحدهما يصنع التماثيل والأصنام والآخر يقوم بتدميرها.. لكن كلاهما يؤمن بنفس الشيء بطريقة ما.. أحدهما يعبد والآخر يدمر، لكن كلاهما متعلق بشيء عميق هو ذاته عند الاثنين.. أحدهما يعتقد أن الله شخصي، والآخر يعتقد أن الله غير شخصي.

الله ليس ذاك ولا ذاك.. كل كلماتنا مقصرة جداً في وصفه..

الله هو... فقط هو.. هو هو هو... الله هو يكون.. يكون هو الله..

التكوين الكينونة... الله فعل وليس اسم

الآن، هل يمكنك تسمية فعل "يكون" بأنه شخصي أو غير شخصي؟

عندما ينعكس القمر في النهر، هل هو شخصي أم غير شخصي؟

وعندما تهب الرياح بين أشجار الصنوبر، هل هذا شخصي أم غير شخصي؟

تلك الكلمات لا تبوح بأي معنى.. كل شيء يحدث ويكون كما هو...

القمر ينعكس في النهر ينعكس في النهر، والرياح تهب في الأشجار تهب في الأشجار..

تحدث وتكون كما تكون.. كل ما يمكن قوله: تكون..

 

ليس هناك خطيئة، ليس هناك جنة، لا ربح ولا خسارة..

هذه التجاوزية الأسمى، لا تدور أسئلة حولها!

مقولة عظيمة ذات مغزى هائل: لا يوجد خطيئة، ولا يوجد جنة.. كل الخطايا تُصنع بسبب فكرتنا عن كيف يجب أن تكون الأشياء.. لا يمكننا قبول الأشياء كما هي، نريد فرض إرادتنا الخاصة على الوجود، نحاول باستمرار فرض أفكارنا على الحياة: "يجب أن تكون الأشياء هكذا وأن تتصرف الكائنات هكذا"... لكن عندما تهب الرياح بين أشجار الصنوبر، هل هي حسنة أم خطيئة؟ هل هي حلال أم حرام؟ وعندما ينعكس القمر في النهار، هل هذا أخلاقي أم غير أخلاقي؟

الواقع الحقيقي كما هو ببساطة.. ليس هناك خطيئة.. وليس هناك جنة.. وإذا لم يكن هناك خطيئة فكيف سيكون هناك نار جهنم؟ لأنه إذا لم يكن هناك خطيئة فليس هناك عقاب ولا حساب.. ولا يمكن أن يكون هناك حسنات وسيئات ولا مكافأة أو عقوبة.. لا جنة ولا نار..

يستمر رجال الدين باختراع الخرافات والمبالغة بها: سبع طبقات من الجنة وسبع طبقات من النار والتعذيب.. خرافات لمجرد استغلال الناس.

ليس هناك نار وليس هناك جنة.. النار ليست إلا خيال، تخيّل لحالة البؤس والألم... والجنة أيضاً خيال، تخيل للتجارب الممتعة التي حدثت لك وأنت تريدها مجدداً وللأبد.

الحياة ببساطة كما هي.. والحياة دائماً هنا والآن..

 

ليس هناك خطيئة، ليس هناك جنة، لا ربح ولا خسارة..

مقولة عظيمة، ويحتاج المرء قلباً عظيماً حتى يفهمها.. الشخص ضيق الفكر سيرتبك كثيراً.. الفهم دوماً يحتاج فكراً واسعاً وقلباً مفتوحاً كالسماء..

ليس هناك ربح ولا خسارة.. تلك كلها من الطمع: ربح وخسارة..

ذلك هو الذي أدعوه الشخص غير المتدين: الذي يفكر دوماً بمصطلحات الربح والخسارة.

عندما يرى عامة الناس أشخاصاً يتأملون ويرقصون ويغنون، قد يُظهرون بعض الاهتمام بالتأمل، لكن سؤالهم دائماً هو: "ما هو المكسب الحقيقي من كل هذا؟" المكسب الحقيقي؟! أليس الغناء والرقص كافياً؟ ماذا تريد بكلمة مكسب حقيقي؟ شيئاً ملموساً، تستطيع حمله معك إلى منزلك وتريه لجيرانك وتقول: "انظروا لقد حصلتُ على التأمل، وأنتم ليس عندكم تأمل"؟  شيء تطبعه مثل شهادة شحادة تعلقه على الجدار لتؤثر بالناس وتتفاخر قائلاً: هذا هو التأمل.. ماذا تعني بالمكسب الحقيقي؟

لكن الفكر الطماع، الفكر التجاري، يفكر دوماً بتلك المصطلحات.. وبسبب هذا الفكر الطماع هناك دوماً أشخاص يستمرون باستغلالك، يقولون: "تأمل، وسيكون هناك مكاسب عظيمة وفوائد هائلة"... يستمر مثلاً مهاريشي ماهش يوغي بإخبار الناس أنهم لن يحصلوا على مكسب روحي فحسب، بل مكاسب مادية واقتصادية أيضاً.. "إذا تأملتَ ستربح المزيد من المال والثروات، فالمال سينجذب إليك كالمغناطيس إذا تأملت يومياً.. إذا تأملت ستنجح في الامتحان والحياة"

ما هو كل هذا الهراء والاستغلال باسم التأمل والروحانيات؟ لكن ذلك هو ما يريده الناس..

حدث ذلك منذ أن بدأ "المعلمون" الهنديون بالذهاب إلى الغرب.. لم يقدر أي معلم هندي مزعوم أن يحول الغرب، بل قدر الغرب على تحويل كل المعلمين الهنود.. بدلاً من مساعدة الناس على التأمل، أصبحوا رجال أعمل أثرياء... وبدؤوا يتحدثون بلغتهم: "كذا وكذا ستكون المكاسب من التأمل.. لن تصاب بصدمة قلبية إذا تأملت.. ستحصل على حياة ناجحة أكثر.. ستصبح أكثر شهرة.. ستحصل على مزيد من الأصدقاء.. حياتك الزوجية ستكون أكثر سعادة"..إلخ

التأمل ليس له علاقة بكل تلك الأمور... التأمل هو مجرد بهجة ونشوة..

والتأمل يحدث فقط لأولئك الناس الذين لا يطلبون تلك الأشياء..

إذا كانوا يطلبون تلك الأشياء فلا يمكن للتأمل أن يحدث لهم.. وأولئك الذين يستمرون بالوعود وتأكيد أن هذه الأشياء ستحدث لك، التأمل لم يحدث حتى لهم أيضاً.. لأن الشخص الذي يعرف ما هو التأمل لا يمكن أن يغشك.

 

ليس هناك خطيئة، ليس هناك جنة، لا ربح ولا خسارة..

هذه التجاوزية الأسمى، لا تدور أسئلة حولها!

ولا يمكن طرح الأسئلة عنها أو عن التأمل أو عن الله... إما أن تختبره أو لا تختبره... والأسئلة لا تساعدك على اختباره.. فقط اذهب تحت السماء وانظر.. اشعر بهبوب الرياح بين أشجار الصنوبر.. كُن تلك الرياح أحياناً، وأحياناً كن الأشجار واشعر بها..

الدين يجب أن يُشعر به....

كن النهر واعكس القمر، أو كن القمر وكن منعكساً في النهر..

وإذا تعمق تأملك، يمكنك أن تصبح كلاهما معاً: القمر والنهر سوية... وتلك هي اختبارات الألوهية... ولذلك الزن هو الذي سيكون دين المستقبل، لأن دين المستقبل سيكون ديناً من الجَمال وليس من الأخلاقيات.

 

أديان الماضي كانت أخلاقية مبنية على الفضيلة والالتزامات..

دين المستقبل سيكون ديناً جمالياً.. الجمال سيكون هو القيمة العليا، وكل شيء آخر سينتج عن الشعور بالجمال... أديان الماضي كانت نثراً، دين المستقبل سيكون شعراً...

في الماضي، إذا كان شخص ما يصوم، كان ذلك يُعتبر شيئاً عظيماً، لكنه لن يكون كذلك في المستقبل... إذا كان شخص ما يرقص سيُعتبر قديساً.

صائم؟؟ ما علاقة ذلك بالدين؟ الشخص ببساطة مازوشي مريض يعذب نفسه، ويحتاج علاجاً نفسياً.. إنه يقتل نفسه وأنتم تبجلونه وتعبدونه.. أنتم أيضاً جزء منه.. إذا كان سيذهب إلى النار فأنتم أيضاً ذاهبون معه.. إذا كان هناك أي نار فكلاكما ستذهبان إليها: الرجل قد عذب نفسه، وأنت قد ساعدته على فعل ذلك.. أنت عنيف مثله.

عندما تحترم وتكافئ شخصاً ما لأنه يصوم، فأنت عنيف وغير إنساني، لأنك بذلك تدفعه حتى يعذب نفسه أكثر فأكثر... وهذا ما يحدث: إذا أراد إشباع الأنا أكثر، إذا أراد مزيداً من الناس حتى تحترمه وتقدسه، سيستمر بالصوم القاسي أكثر وأكثر.. وسيجد طرقاً خفية أكثر لتعذيب نفسه: سينام على سرير من الأشواك والمسامير، أو سيبدأ بلطم وجرح نفسه في المناسبات الدينية.

كان هناك طائفة مسيحية قديمة، تعتبر أعظم قديس فيها هو الذي يضرب ويجلد جسده حتى يسيل الدم كل صباح... وبعض الطوائف المسلمة لا تزال في نفس الجهل.. ويأتي الناس ليشاهدوا مناظر الدم.. تخيل أولئك الناس.. يتفرجون على القديسين الذين يجرحون أنفسهم لتتدفق الدماء من أجسادهم المعذبة.. يتفرج الناس بدهشة وإعجاب، هذا القديس العظيم الذي يعذب نفسه لأجل الدين أو الله أو شخص ما.

هؤلاء "القديسون" هم مرضى بشدة، والناس الذين أتوا لمشاهدتهم مريضون مثلهم.

في روسيا كان هناك أيضاً طائفة مسيحية يقوم فيها الرجال بقص قضيبهم الذكري، وتقوم النساء بقص أثدائها.. ويتم اعتبارهم قديسين عظماء جداً.. عندما تحدث تلك العملية تجري في احتفال كبير ويحضره ألوف الناس....

ما هو نوع العالم الذي عشنا فيه في الماضي؟

وما هو نوع الناس الذين كنا نعتقد أنهم متدينين وقديسين؟؟

 

الدين الجديد سيكون جمالياً.. شاعرياً..

سيتم اعتبار الشخص متديناً إذا رسم الجمال، أنشد الجمال، أو رقص بجمال.. إذا كان عنده بهجة وحياته مليئة بالفرح والاحتفال... ليس مجرد فرح داخلي، بل فرح يفيض ويزيد.. وفرة وافرة من البهجة التي يشارك بها الجميع... ذلك هو الدين الذي سيحدث في المستقبل.. واللمحات الأولى منه قد حدثت في الزن.. فقط معلمو الزن هم الذين كانوا يرسمون ويكتبون الشعر والفنون... تلك هي اللمحات الأولى من ثورة الجمال.

 

إذا كان عند الإنسان حسّ الجمال فلا يمكن أن يكون سيئاً أبداً، لأن كل السوء بشع... مَن يمتلك حس الجمال لا بد أن يكون صالحاً خيراً دون حاجة لأي شرائع ووصايا وتدريب... الصلاح سيكون طبيعياً عنده: سيتبع إحساسه بالجمال.

 

دع الجمال يكون إلهك....

 

ليس هناك خطيئة، ليس هناك جنة، لا ربح ولا خسارة..

هذه التجاوزية الأسمى، لا تدور أسئلة حولها!

لا تكن متفلسفاً، بل كن متديناً...

لا تشارع وتفسّر وتنظّر، بل اختبر...

 

مَن هو عديم التفكير؟ مَن هو عديم الولادة والموت؟

لا تستمر بالتفكير بهذه الأشياء وهذه الأسئلة: ما هو الله؟ ما هي الروح؟ ما هي الجنة؟ لا تستمر بالتفكير لأنك لن تحل شيئاً.. والأجوبة التي ستحصل عليها لن تصنع إلا مزيداً من الأسئلة فقط.

"من هو عديم التفكير؟"... من هو هذا الشاهد؟ من الذي يتأمل؟ من الذي يصل؟

لا تسأل هذه الأسئلة، بل صِل.. تأمل.. شاهد..

كن عديم الأفكار وانظر... وستصل لمعرفة من هو عديم الولادة وعديم الموت.. الأبدي السرمدي..

الحياة عديمة الولادة، وعديمة الموت.. الحياة دوماً تستمر..

تستمر الأشكال بالتغيّر، فالأشكال مؤقتة، بينما الحياة أبدية..

لكن تذكر أن الحياة يتم التعبير عنها عبر اللحظات..

لا تصنع انفصالاً بين اللحظة وبين الأبدي.. ولا تبدأ بالبحث عن الأبدي، ولا تبدأ التضحية بالشيء اللحظي المؤقت، لأن الأبدي يعبّر عن ذاته عبر العابر المؤقت، الروح تعبّر عن ذاتها عبر الجسد....

الله لم يصنع العالم، بل الله قد أصبح هو العالم..

لو أن الله قد صنع العالم، فهو يبقى منفصلاً وبعيد...

الله قد أصبح العالم... أعلنوا ذلك!!

اصعدوا إلى المنابر وقمم الجبال وأعلنوها لكل الدنيا: الله قد أصبح العالم.. الخالق هو المخلوق..

الآن لم يعد هناك أي ثنائية بين الله والدنيا..

لا يوجد أي شيء اسمه إلهي سماوي أبدي، أو شيء اسمه دنيوي فاني..

لا إله ولا دنيا..

الدنيا بحد ذاتها مقدسة... الدنيا مليئة بالألوهية في كل مكان وزمان..

ولا يوجد أي إله سواها..

إنها هنا والآن.. داخلي وداخلك، وفي الطيور والأشجار والزهور..

في هذه اللحظة.. لكن عِشها واختبرها..

 

أضيفت في:27-3-2017... زاويــة التـأمـــل> تأمل ساعة
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد