موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

من السدود إلى الحدود ثم إلى الوجود

هل نحن نحتاج لحدود تفصل بيننا وبين الآخرين؟ أم أن هذه أنانية واستكبار؟
هل الإنسان مفصول أم موصول.. هل هو جزيرة معزولة أم أرض موصولة؟

إن تربية الأهل وبرمجة المجتمع اللاواعية تعطينا فقط خيارين في هذا الموضوع:
نتربى إما على الانفصال وحماية حدود الأنا والجمود...
أو نتربى على انعدام الخصوصية والتشتت مع الحشود...
لاحظ كيف أن كلا الخيارين متطرفين... وهما ردود فعل لا أكثر؟
إما أن نجد الشخص مستكبراً يرسم هالةً ضخمة وحدوداً صارمة حول شخصيته، مثل سدود الإسمنت المصمتة، فيعيش دون حياة، بحالة عزلة وتصلب وجمود... أو نجد الشخصَ ممسوح الحدود والخصوصية، ضائعاً بين الحشود ويمكن لأي شخص أن يتجاوز حدوده ويأخذ حقه، فيعيش أيضاً دون حياة، بحالة خلطة وتميّع وهمود..
نجد هذين التطرفين موجودين بين بعض المدن في نفس البلد... وحتى بين أفراد من نفس العائلة...
بسبب البرمجة فقدنا الوعي والفطرة... فتحول موضوع الحدود إما إلى سدود أو إلى تشتت الحشود..
حتى الحيوانات عندهم الحدود السليمة ومنطقة السيادة الخاصة بهم، وقد فقدنا حتى هذه الحدود..


رحلة الوعي التي نسيرها اليوم:
من السدود والجمود... ومن التشتت والهمود... إلى فهم حقيقة الحدود..
وضع الحدود ثم تجاوزها.. وإعادة الاتصال بالوجود...
 

الحدود الشخصية الصحية للإنسان:
الحدود هي الخطوط التي ترسم الشخصية عندنا..
وهي تسمح لنا بامتلاك مسافة بيننا وبين الآخرين،
وهي أساس بناء العلاقات السليمة...


كثيرٌ منا لا يمتلك حدوداً ولا حتى يفهم ما هي الحدود،
لأن أهلنا لم يعطوننا حدوداً واضحة منذ الصغر،
أو لأن حدودنا كثيراً ما تمّ تجاهلها أو تجاوزها..
أو أنهم أعطونا وهم الأنا والانفصال فوضعنا السدود..
 

أنواع الحدود:
1- الحدود الجسدية: وهي حدود مرسومة حول أجسادنا والفسحة الشخصية التي نحتاجها.
2- الحدود العاطفية: وهي المرسومة حول طريقة شعورك، وحول الأشخاص الذين تنشغل معهم، وحول أجزاء ذاتك التي تشاركها مع الآخرين.
3- حدود الموارد: وهي المرسومة حول وقتك وطاقتك أو جهدك..
4- الحدود المادية: وهي المرسومة حول أشيائك، وكيفية استعمالها، أو كيفية التعامل معها.
 

أمثلة عن الحدود الجسدية:
- "لقد كان عندي أسبوع شاق فعلاً، وأحتاج بعض الوقت مع نفسي لكي أرتاح".
- "رجاء لا تلمسني بمثل تلك الطريقة مرةً أخرى"
- "رجاء اطرق الباب قبل الدخول إلى غرفتي أو مكتبي"
- "سوف أجلس قليلاً الآن وأشرب بعض الماء"
 

أمثلة عن الحدود العاطفية:
- "أنا لستُ في ذهن أو مزاج جيد حتى أساعدك في موضوعك الآن"
- "هل لديك قدرة للإصغاء إليّ ربع ساعة، لكي أشاركك بماذا يحدث معي مؤخراً؟"
- "سأحتاج للتوقف المؤقت من هذه المناقشة وأخذ استراحة الآن، فأنا في أقصى حدودي العاطفية"
- "هذا ليس الوقت المناسب للتحدث حول هذا الموضوع"
 

أمثلة عن حدود الموارد:
- "أستطيع القدوم، لكنني أستطيع البقاء عندك مدة ساعة فقط"
- "مساء الجمعة هو الوقت الذي أعيدُ فيه شحن نفسي، لذلك لن أستطيع مقابلتك"
- "هل لديك متسع من الوقت يوم الغد حتى ندردش ربع ساعة حول هذا الموضوع؟"
- "أنا على استعداد للتعاون معك في المستقبل، الأمر فقط أنه ليس لدي مجال لذلك الآن"
 

أمثلة عن الحدود المادية:
- "إنني لا أسمح للناس بقيادة دراجتي، فأنا لا أرتاح لذلك"
- "يمكنك ارتداء بعض ملابسي، لكن رجاء أعدهم إليّ غداً"
- "إذا رغبتَ باستعارة أشيائي، رجاء اطلب إذني أولاً"
- "كنتُ أتساءل في نفسي، هل يزعجك إذا استعملتُ حاسوبك صباح الغد لقراءة بريدي الإلكتروني؟"

 

عندما نبدأ بوضع أو رسم الحدود، من العادي أن نشعر بالخوف أو الذنب أو الارتباك، وحتى الشك بأن لديك الحق برسم حدودك... هذه المشاعر تأتي من التعلق وأو الاتكال المتبادل، ومع الممارسة لوضع الحدود يمكننا تطوير وعينا لرؤية أن الحدود هي جزء طبيعي من قيمة الذات.

الأشخاص الأصحاء عاطفياً يمتلكون حدوداً، ويحترمون حدود الآخرين... لديهم النضج العاطفي لفهم أن كلاً منا لديه محدودياته الخاصة به، وأن تلك الحدود ليست شيء لئيم أو فظّ ودنيء.. تذكّر، وضع الحدود هو ممارسة تتطور وتصبح مريحةً أكثر مع مرور الوقت.

ومع بداية وضعك للحدود، والتعبير عن حدود قدراتك، قد تجد بعض الناس القريبين منك يصبحون انفعاليين أو يتجاهلون تماماً حدودك.. مجرد عملية وضعك للحدود تستطيع إعطاءك عيوناً مفتوحة لتشاهد بها الآليات العميقة في علاقاتك.

الأشخاص الأصحاء يضعون الحدود ويحافظون عليها.. إنهم يُظهرون محبتهم لأنفسهم، وتقديرهم لقيمة أنفسهم، عبر التعبير عن حدودهم بشكل لطيف وموضوعي... وعندما يقوم شخصٌ ما بوضع حدّ معين تجاههم، فإنهم يحترمون ويقدّرون حدود ذلك الشخص... الحدود هي أساس بناء العلاقات السليمة.

بالنسبة لكثير من الأشخاص الذين عندهم صدمات (تروما) غير معالجة، ستعطيهم الحدودُ شعوراً أشبه بالهجران والوِحشة.. من الهام أن تفهم بأنك لستَ مسؤولاً عن الحالة العاطفية عند الآخرين.. كيفية ردة فعل شخصٍ ما تجاه حدّ معين تعود له.. وكيفية استجابتك لتلك الردة من الفعل تعود لك أنت... أنت لديك دائماً الخيار يا مختار.

التأمل والوعي والحدود والوجود:
وعي الذات هو مرض... أما الوعي فهو الصحة!
وعي الذات هو نتيجة شيء خاطئ حدث في لحظة ما من حياتنا... عقدةٌ ما قد حدثت.. فلم يعد نهر الوعي يتدفق بسلاسة، لأن شيئاً غريباً صار يعيق مجراه، شيء لا يمكن للنهر أن يمتصه أو يصبح جزءاً منه، شيء يقاوم أو يصبح جزءاً من النهر.
وعي الذات هو مرض.. إنه حالة حجب وجمود.. مثل بركة متسخة بالوحل، لا تذهب لأي مكان، بل تبقى تتبخر وتجف ببطء وتموت مطلقة رائحة كريهة..


لذلك أول نقطة يلزم فهمها هي الفرق بين وعي الذات والوعي.
الوعي ليس فيه أي فكرة عن "الأنا".. ليس فيه أي فكرة عن انفصال المرء عن الوجود.. لا يعرف أي سدود ولا حدود.. فالوعي والوجود هما شيء واحد، في توافق وتناغم عميق.
ليس هناك صراع بين الفرد وبين الوجود الكلّي.. الفرد يتدفق ببساطة إلى الوجود والوجود يتدفق إلى الفرد في نفس الوقت.. تماماً مثل التنفس: شهيق وزفير.. في الشهيق يدخل فيك الوجود، وفي الزفير أنت تدخل في الوجود.. ولا يختل هذا التوازن مطلقاً.
لكن في حالة وعي الذات، شيء خاطئ ما قد حدث.. يأخذ الشهيق لكنه لا يُطلق الزفير أبداً!.. يستمر بالتكديس والتكديس وفقد القدرة على المشاركة.. يستمر بصنع الحدود حول نفسه لكي يمنع الآخرين من تجاوزها.. فتجده يحمل لافتات كبيرة مكتوب عليها: "ممنوع تجاوز هذه الخطوط الحمراء!!"... بالتدريج، يتحول هذا الشخص إلى قبر وكائن ميت، لأن الحياة موجودة في المشاركة.
النفس أو الذات هي شيء ميت، أو شيء حيّ فقط للحفاظ على الاسم واللقب والشهرة...

الوعي هو الحياة اللامحدودة، الحياة الوافرة المباركة.. لا يعرف شيئاً من الحدود..

لكن في العادة كل الناس عندهم وعي الذات.
أن يكون عندك وعي الذات يعني أنك غير واعي... يلزم فهم هذا التناقض:
وعي الذات يعني اللاوعي، وعدم وعي الذات يعني الوعي...
وعندما لا يكون هناك ذات، عندما تختفي هذه الذات الصغيرة المحدودة، ستصل أنت إلى الذات الحقيقية،
أو التي تدعى الذات الإلهية... الذات الكلية الأسمى..
 

وهي شيئين معاً في نفس الوقت:
لا ذات، بمعنى أنها ليست ملك لك وحدك،
والذات الأسمى، لأنها ذات الكل وهي الوجود الكلي..


أنت تفقد مركزك الضئيل، وتحقق مركز الوجود ذاته.. وفجأة تصبح غير محدود، فجأة لم تعد محدداً ولا مقيداً بشيء، لا يوجد قفص حول كيانك.. تبدأ طاقة لا محدودة بالتدفق خلالك.. وأنت تصبح وسيطاً، فارغاً دون عراقيل... مثل ناي فارغ في يد الوجود الذي ينفخ فيه وتصدر ألحان الجنان.. هذا هو الاستسلام للوجود.


وعي الذات هو حالة رفض وقتال لا رضى واستسلام.. إذا كنتَ تقاتل الوجود ستكون واعياً لذاتك وبالطبع ستتعرض للهزيمة مراراً وتكراراً.. كل خطوة ستجلب لك الخسارة والإحباط أكثر.. منذ البداية كانت خطوتك خاطئة، لأنك لا تستطيع الاحتفاظ بهذه الذات ضد الوجود والكون بكامله.. مستحيل.. لا يمكنك أبداً الوجود دون هذا الوجود.
لا يمكنك النجاح إلا مع الله، وليس ضده أبداً.. لا يمكنك النجاح إلا مع الكلية في الحياة وعيش الألوهية، ليس ضدها أبداً..
لذلك إذا كنت محبطاً أو في معاناة عميقة، تذكر: أنت الذي تصنع تلك المعاناة.. وأنت تصنعها باستعمال خدعة خفية جداً: أنت تقاتل ضد الوجود.


في أحد الأيام كان النهر في القرية يفيض بقوة من كثرة الأمطار... وأتى الناس راكضين إلى جحا وقالوا: "أسرع يا جحا فوراً تعال أنقذ زوجتك لأنها وقعت في النهر الهائج!!"
ركض جحا... وقفز في النهر... ثم بدأ يسبح ضد التيار... فقال الناس المتفرجون: "ماذا تفعل يا جحا؟؟ زوجتك لا يمكنها السباحة ضد التيار في هذه المياه القوية، لقد جرفها التيار معها للأسفل"
فأجاب جحا: "عن ماذا تتحدثون؟ إنها زوجتي وأنا أعرفها جيداً.. لا يمكنها السباحة إلا ضد التيار ليل نهار!"

أضيفت في:26-11-2020... حياة و موت> عبادة و تعبّد
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد