مساجدنا ما شاء الله عامرة بالبنيان
كنتُ ماشياً في
الطريق، ورأيت مسجداً يتم بناؤه.... وقلتُ في نفسي: المساجد عددها كبير، وربما عدد
الناس الداخلين إليها تناقص كثيراً، لكن لماذا إذاً يتم بناء هذا المسجد الجديد؟
وهو ليس مسجداً واحداً... هناك كثير جداً من المساجد يتم بناؤها وكل يوم يظهر عدد
منها... إذا كنتَ في دمشق مثلاً، اصعد إلى جبل قاسيون مساءً وشاهد ألوف المآذن
المضاءة بالأخضر لتدلّ على كثرة الإيمان عند الناس.
يتم بناء المزيد
من المساجد، وعدد الزائرين لها يتناقص.. ما هو السرّ وراء ذلك؟
فكرتُ كثيراً ولم
أقدر على معرفة السبب... بعدها سألتُ معمارياً كبيراً في العمر يعمل في بناء المسجد
الجديد... اعتقدتُ أنه سيعرف سبب بناء كثير من المساجد الجديدة لأنه قد بنى العديد
منها.
بدأ الرجل الكبير
بالضحك على سؤالي، وأخذني خلف المسجد حيث يتم تقطيع ونحت الأحجار... كان هناك أحجار
منقوش عليها أسماء الله الحسنى والنبي محمد والخلفاء الأربعة... ففكرت: ربما سيقول
لي أن المسجد يتم بناؤه لأجل عبادة الله وأسمائه ولتذكّر النبي والخلفاء الراشدين..
لكن ذلك لم يكن سيرضي فضولي، لأن السؤال عندها سيكون: لماذا ننقش كل هذه الأحجار
بأسماء الله والأنبياء ونقاتل بعضنا لأجلها؟ ألم تصبح شبيهة بالأصنام؟
لكن لا... كنتُ
مخطئاً.. لم يقل أي شيء عن تلك الأحجار.. تركهم وتابع المشي.. في النهاية وصل إلى
حجر كبير يعمل عليه بضعة رجال، أشار إليه وقال: "المسجد يتم بناؤه لأجل هذا،
والمساجد كلها يتم بناؤها لأجله"
تفاجأتُ مذهولاً
وندمتُ على حماقتي... لماذا لم أفكر بذلك من قبل؟!.. كان منقوشاً على ذلك الحجر اسم
الشخص الذي دفع الملايين لبناء المسجد.
كنتُ عائداً
للبيت وأنا أفكر بذلك... عندما رأيت موكباً حاشداً من الناس... كان هناك شيخ عائد
من الحجّ من عند الله والنبي... والموكب كان احتفالاً بعودته... وقفتُ إلى جانب
الطريق أشاهد الموكب... نظرتُ إلى وجه وعيون الشيخ العائد طاهراً من الذنوب ومقدساً
مباركاً كما يُفترض...
الصفاء والهدوء
المعتاد في عيون الحجاج القدامى لم يكن موجوداً في عيونه... وعيونه لم تحمل إلا نفس
العظمة والافتخار الذي نراه في عيون السياسيين... لكن ألا يمكن أن أكون مخطئاً، أو
متأثراً بحديث المعماري الكبير في المسجد؟.. لكنني أعرف العديد من الحجاج الآخرين
أيضاً، النوع الخفيّ من الاستكبار والافتخار الموجود فيهم من الصعب أن تجده عند أي
شخص آخر.... ربما كل فعل ينتجه فكر الإنسان ليس أعلى من ذلك الاستكبار... ما لم
تتحرر من الفكر، لن يكون هناك تحرر من شعور العظمة..
منذ بضعة أيام
فحسب، صامَ أحد الأصدقاء عشرة أيام... كنتُ متفاجئاً جداً بمقدار قلقه للإعلان عن
ذلك الصيام... لكن لا، لقد كان ذلك خطأي أنا... ذلك البنّاء الكبير قد كشف لي كل
الأخطاء في كامل حياتي.
بعد الصيام، تلقى
ذلك الصديق كثيراً من المديح والشرف والترحيب.. كنتُ حاضراً يومها أيضاً... وهناك
همسَ في أذني أحد الرجال المحترمين: "صديقنا الصائم المسكين قد تحمّل تكاليف كل هذه
الحفلة أيضاً"....
صُدمت كثيراً
حينها... لكن بسبب ذلك الرجل الكبير أصبحتُ أكثر حكمةً اليوم، ولا أرى سبباً يدعو
للاستغراب.. على العكس، استمرّت فكرةٌ تدور في رأسي: إذا كانت الإعلانات مفيدة جداً
في الدنيا، فلماذا لا تكون مفيدة أيضاً في الجنة؟.. ألن يكون الحُكم في الجنة
مشابهاً للحُكم في الدنيا؟ فالجنة هي أيضاً من صنع الفكر ذاته الذي صنع الدنيا....
أليس مفهوم الجنة والرغبة بها هي نفس الرغبة في الفكر؟ إذاً ما هو هذا الله؟ أليس
اختراعاً من فكر الإنسان؟ فهو أيضاً يشعر بالغضب والإهانة، ولكي ينتقم من أعدائه
يشويهم في نار جهنم.. وهو يشعر أيضاً بالسعادة عندما تعظّمه وتسبّحه، يحمي أتباعه
من المصائب وينثر عليهم البركات...
ما هو هذا الشيء
الذي يحمي أتباعه من المشاكل ويباركهم؟.. أليس هذا انعكاساً من فكر الإنسان؟.. إذاً
لماذا لا تنجح إعلانات عالمنا في عالم الله أيضاً؟.. لا بد أنه يجمع الشهرة كإثبات
على مصداقيته... بعد كل هذا، ماذا سيكون مقياس الإنسان أمام الله؟
كنتُ أقول نفس
الشيء لأحد الحجاج، فغضب كثيراً وقال: "استغفر الله يا رجل، ما كل هذا الذي تفكّر
به؟!.. لا.... أين هي الحاجة للإعلان في الدين؟.. هذه كلها ألاعيب من الأنا ونتيجة
عنها... إنها النفس اللوامة الشهوانية دائماً ما تسقط في الاستكبار بسبب الجهل
والعياذ بالله"...
عندما قال ذلك،
وافقت على كلامه وقبلت... الحجّ الداخلي يقود إلى الطهارة ومعرفة الله والتقرّب
منه.. ولأن الحاجّ قد ضحّى واستغنى عن أملاكه لأجل الذهاب للحج، لا بد أنه وجد
معرفة الله.. كيف يمكنني الشك بكلماته الجميلة؟
لكن خلال فترة
قصيرة من حديثنا، ذكّرني ثلاث مرات بأنه استغنى عن أملاك تساوي ملايين الليرات
وأصبح حاجّاً تقياً ورعاً... بكلمات أخرى، لم يكن حاجاً عادياً... مقياس الحج ليس
إلا المال أيضاً!
سألته: "متى
استغنيتَ عن كل هذه الأملاك؟"
أجاب: "منذ حوالي
25 أو 30 سنة مضت"... وعندها كان البريق الساطع في عيونه يستحق المشاهدة... يقولون
أن الحج يجلب النور للعيون، لا بد أن هذا القول ينطبق على هذا النوع من البريق.
شعرتُ بالخوف
وقلت له: "يا سيدي الحاجّ... ربما تضحيتك لم تكن بقوة كافية، ركلة قدمك للثروة لم
تكن قوية... وإلا هل من المعقول أن ذكرى ذلك اليوم لا تزال خضراء يانعة بعد مضيّ
ثلاثين سنة؟".
ما كنتُ أخاف منه
حدث أخيراً.. انفجر الحاج بالغضب الأجاج... لكنني واسيت نفسي بأن الغضب أحياناً هو
رحمة أو عادة قديمة عند الحكماء.. ألم تكن رحمة كافية منه أنه لم يرجمني بأي لعنة؟
عند موعد مغادرتي
أخبرته قصة قصيرة.. سأقولها لكم وفكروا بها جيداً لأنها مليئة بالمعاني.
قام أحد الأثرياء
بتقديم عشرة آلاف ليرة ذهبية لأحد مساجد الأولياء... جلس أمام الضريح وبدأ يعدّ كل
ليرة ذهبية قبل وضعها في صندوق التبرعات... كان يأخذ الليرات من الكيس بقوة، فيصدر
صوت رنين قوي... اجتمع حشد غفير من الناس حول الضريح بعد سماعهم رنين الليرات...
واستمرّ الثري بإصدار مزيد من الصوت بعدّه للنقود.
مع ازدياد عدد
الناس حوله، ازدادت متعته بالتضحية وإعطاء الصدقة... في النهاية عندما انتهى من عدّ
النقود والافتخار يملأ عينيه، نظر إلى الناس المجتمعة حوله بسرور... لكن إمام
المسجد قال له: "يا أخي... خذ هذه الليرات وارجع بها إلى منزلك... فالله لن يقبل
مثل هذه الأضحية".
تفاجأ الرجل
الثري وسأل: "لماذا يا شيخنا؟"
قال الشيخ: "هل
الحب هو شيء يمكن عرضه والاستعراض به؟... هل الصلاة هي شيء يمكن التباهي به؟...
هناك في قلبك رغبة شديدة للإعلان والدعاية... مثل هذه الرغبة لن تقدر أبداً على
العطاء.... هذه الرغبة لن تقدر أبداً على الاستغناء ومعرفة الغنى الحقيقي... هذه
الرغبة لن تقدر على معرفة الحب".
أضيفت في:25-4-2014... زاويــة التـأمـــل> رسائل من نور .... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع
|